حسن اليمني
أعتقد أن صناعة الأفلام والمسلسلات التاريخية التي تصور وقائع وأحداثًا جرت فيما مضى واستطاعت تغيير التاريخ في عصرها وإلى ما بعده من عصور هي في غاية الأهمية وتستحق العناية والاهتمام.
برغم أن الفن في مصر العربية له أسبقيته وتاريخه العميق إلا أنه منذ نشأته وإلى اليوم لم يستطع إنتاج فلم أو مسلسل مستند على وقائع تاريخية بشكل يمكن أن يساعدنا في إبرازه أو ذكره. في لبنان كان أكثر جودة لكنه لم يكن كافيًا أيضًا. في المشرق والمغرب العربي ربما نتذكر فلم الرسالة وفلم عمر المختار وليس أكثر.
تاريخنا غني ثري يختزن أقوى وأعمق القصص وأحداث وظهور نعجز في الوقت الحاضر أن نتماهى معه أو نقلده، بل قد وصلنا مرحلة -وبكل أسف- قد يعدّه البعض منّا من الأساطير والخرافات وإن تواضع خطئه وقلل منه ومن أثره. والأصعب والأمر أن نجد من يمجد تاريخ الآخرين ويقلل من تاريخه وحتى ربما سفّهه وعدّه غير مستحق للإشادة، رغم أن مناهج التعليم في مدارسنا العربية تعج بحصص التاريخ والجغرافيا والدين والاجتماع، ما يطرح تساؤلاً ملحًا في إن كانت مناهج التعليم عجزت أن تبني علاقة تفاعلية بين الطالب والمنهج أم أن المناهج العلمية كالرياضيات والهندسة بحكم التركيز عليها وحاجة العصر لها قد أخذت الاهتمام والتفاعل أكثر وأزاحت مناهج العلوم الاجتماعية، وإذا كان كذلك فما هي النتيجة التي حصلنا عليها في حركة واقعنا وتطوره وتقدمه؟
هناك ربما ثغرة فراغ فاصلة فيما بين ما نرغب وما تحقق، والشيء المؤكد أنّنا نستحق الأفضل لكن يبدو أن ثقافة أخرى دخلتنا واكتسحتنا وتلبسنا بها ثم جذبتنا إليها وباعدتنا عن ذاتنا التاريخية، ربما هي العطاءات التي نعيش بها ونسيّر بها حياتنا، وهذا أمر طبيعي لكن نحن مستخدمون ومستهلكون لا ننتج من كل هذا شيء، حتى ولو أضفنا سهولة الانتقال والعيش في بلاد أخرى والاندماج بثقافات أخرى، نحن نعيش وكأننا بلا تاريخ أو هوية، نعيش وكأن لم يكن له سطوة وقوة وحضارة، نعيش مبهورين بعظمة إنتاج الآخرين حتى في آداب فكرهم وفلسفتهم وأخلاقهم، بصرف النظر عن طبيعة وصحّة تبادل الثقافات والتقاليد بين الأمم لكن يبدو أن هناك قوة ناعمة تزيد وتؤصل هذا التغييب وتوسيع مساحة الفراغ الفاصل بين واقع نعيشه نشعر أننا نستحق أفضل منه وتاريخ مجيد حال الانبهار بما نرى عنه وحجبه.
الميديا الإعلامية والفنية أصبحت منذ بداية القرن الماضي واحدة من أهم القوى الناعمة المؤثرة، أتذكر في الطفولة كنّا نحاول أن نحاكي ما نشاهده في التلفاز كمرح ولعب أطفال طبيعي، وما استدعى التذكر هو أننا كنا نختار لأنفسنا شخصيات بطولية فكان أحدنا يمثل خالد بن الوليد وآخر فارس بني عيّاد، لكن هناك من يختار (جون كاترايت)، حسناً الأول أسطورة عربية تاريخية والثاني شخصية عربية في عمل فني خيالي والثالثة راعي بقر أمريكي لا علاقة البتة بيننا وبينه لكنه بطل وسيم وشجاع. هذا الغريب أدخلته الميديا الفنية الأمريكية عبر مسلسل تلفازي استطاع أن يحتل مكانة من عقل المشاهد تزاحم ما أدخله المنهج الدراسي والميديا الفنية العربية، ثلاثي التأثير في تكوين الشخصية الفكرية أو التخيلية، وهذا لب ومضمون ما أريد أن أتحدث عنه وفيه ومنه.
إننا أمام ثلاثية تأثير هي (الأصالة، الإبداع، التجاذب)، الأصالة من التاريخ والإبداع من العقل العربي والتجاذب من الفن الأجنبي. تتالت أجيالنا على هذه الأثافي الثلاثة فصرنا كما نرى اليوم في عقلنا وفكرنا الثقافي وفلسفتنا الحياتية بين أصيل متوارٍ ومثقف حائر ومسلوب متغرب. للأسف الإبداع الفني العربي ظهر خجولاً ولم يدم طويلاً، وتدحرج إلى البحث عن القيمة المالية أكثر من القيمة البنائية حتى أصبح ممجوجًا تجاوزه الزمن، بينما صعد التغرب والانجذاب للثقافات الأخرى على حساب الأصيل، الآن حتى الطرب العربي أصبح يرقص... ويكفي هذا لرسم الصورة.
أعتقد أننا بحاجة إلى إعادة فهم صناعة الأفلام والمسلسلات لتحويلها إلى قوة ناعمة ذات تأثير يستهدف تنمية وتصعيد الثقة في النفس من خلال استعادة مجدنا التاريخي عبر أفلام ومسلسلات يتوجب أن لا نبخل عليها ماليًا ونوفر لها الإمكانيات كافة لتصّعد للعالمية، ولنا في الاتجاه التركي الفني الذي أنتج مسلسل ارطغرل وعثمان والب أرسلان وغيره الكثير من حيث سعة وسرعة انتشار هذه الأعمال. إجادة العمل وإتقانه كفيلان بتصديره، وحين نصدر للعالم تاريخنا ومجدنا فإننا نصنع قوة ناعمة في اتجاهين داخلي وخارجي، الداخلي يعيد بناء الثقة في أجيالنا ويحفّز هممنا، والخارجي يحضّرنا في عقول الآخرين ويصحح صور الاستخفاف والتهريج الذي صنعوه لشخصيتنا العربية والإسلامية.