شهد يوم السابع من جمادى الأولى لعام 1443هـ الذكرى المئوية لدخول الملك عبدالعزيز آل سعود طيب الله ثراه مكة المكرمة.
مائة عام على هذا الحدث العظيم الذي اهتز له العالم شرقًا وغربًا؛ ليبدأ عصر جديد في تاريخ مكة المكرمة وتاريخ الحرم المكي الشريف.
مائة عام هي أزهى عصورها لتنتقل فيه مكة المكرمة إلى عهد التنمية والازدهار والتوسعة العظيمة.
مائة عام من الأمن والأمان والاستقرار لأهلها ولضيوف الرحمن.
مائة عام سجلت تاريخًا مجيدًا في حكم أطهر بقاع الأرض.
وبهذه المناسبة نتذكر ذلك الحدث التاريخي الجليل، لحظة دخول الملك عبدالعزيز إلى مكة المكرمة، ذلك الدخول المهيب الذي تجسد كمشهد سينمائي رائع يتوج ملحمة التوحيد العظيمة؛ حيث دخل الملك عبدالعزيز في ركاب عظيم ملبين بالعمرة بأصوات بلغت عنان السماء حتى وصل الركاب إلى الأبطح، ثم امتطى الملك وحاشيته خيولهم بين السرادقات التي نصبت لاستقباله، وزينت بالأنوار ابتهاجًا بقدومه حتى وصل إلى باب السلام، فترجل الملك عبدالعزيز ليدخل الحرم الشريف ويطوف بالبيت العتيق، ثم صلى العشاء في مقام إبراهيم.
كانت العمرة هي فاتحة دخول الملك عبدالعزيز مكة طالبًا من الله أن يبارك أقدامه في هذه الأرض الطاهرة.
وبعد انقضاء العمرة خرج الملك وحاشيته إلى منزل آل باناجة؛ حيث كان الناس بانتظاره لمائدة العشاء. وتصف جريدة أم القرى -في عددها الأول- أخبار الحفل المهيب الذي أقيم بهذه المناسبة؛ إذ أقيمت السرادقات لاستعراض الخيل، فسار الموكب الملوكي من مقر مخيم الملك إلى الأبطح، وكانت جموع أهل مكة تصطف على جانبي الطريق، وبدأ استعراض الخيالة من جنده بالخيل، وكانت طلقات الرصاص تطلق في الفضاء احتفالًا بقدوم الملك، وكان في استقبال الملك في سرادق الحفل الكبير أهل العلم والوجهاء والتجار من أهل مكة مرحبين بقدومه، وفي مقدمتهم الشيخ عبدالقادر الشيبي (أمين مفتاح بيت الله سادن الكعبة المشرفة)، الذي بدأ يعرفه بالناس الذين اصطفوا واحدًا واحدًا للسلام على جلالته ومصافحته.
وقد كان في معية الملك في هذا الاستقبال العظيم جمع من آل بيته من أمراء آل سعود، في مقدمتهم أخوته: الأمير محمد بن عبدالرحمن، والأمير عبدالله بن عبدالرحمن وأبناؤه الأمير محمد بن عبدالعزيز والأمير خالد بن عبدالعزيز، وعدد من رجالاته وأفراد جيشه.
كما ألقى الملك عبدالعزيز في هذا الحفل الكبير خطابًا تحدث فيه عن غايته من دخوله الحجاز، واعدًا أهلها ببداية عهد جديد من الأمن والعدل والاستقرار، كما وعد علماء مكة بعقد لقاء معهم في اليوم التالي؛ ليكون لهم متسع من الوقت للحديث في كل ما يرغبون به.
كذلك وُزّع بيانٌ على عموم أهل مكة بتوقيع عبدالعزيز بن عبدالرحمن يوضح فيه سياسته في الحجاز، ومما جاء فيه بلسان الملك: «أما بعد، فلم يقدمنا من ديارنا إليكم إلا انتصارًا لدين الله... وقد شرحنا لكم غايتنا هذه من قبل، وها نحن أولاء -بعد أن بلغنا حرم الله- نوضح لكم الخطة التي سنسير عليها في هذه الديار المقدسة؛ لتكون معلومة عند الجميع»، كما جاء في هذا البيان: «لا كبير عندي إلا الضعيف حتى آخذ الحق له، ولا ضعيف عندي إلا الظالم حتى آخذ الحق منه، وليس عندي في إقامة حدود الله هوادة، ولا يقبل فيها شفاعة»؛ مستشهدًا بهذا القول من سيرة خليفة رسول الله أبي بكر الصديق -رضي الله عنه-، معلنًا سياسة العدل والحق التي استبشر فيها أهل الحجاز بعد رؤيتهم هذا الملك المتواضع العادل؛ ليبدأ عهد جديد في خير بقاع الأرض.
كان الاحتفال الكبير بدخول الملك عبدالعزيز مكة المكرمة (العاصمة المقدسة) رمزًا للوحدة الوطنية التي سعى جلالته لتحقيقها ما يزيد على ثلاثين عامًا، ورمزًا عظيمًا للُحمة الشعب مع قيادته الحكيمة العادلة، فقد كانت صورة هذا المشهد تشع بهجة وسعادة وفخرًا وكبرياء لهذا الدخول العظيم... فقد كان دخول الملك عبدالعزيز على فرسه وحوله الخيالة في موكب عظيم دخول الفاتحين؛ مما ترك أثرًا كبيرًا في نفوس أهل مكة ونفوس المسلمين في كل بقاع الأرض.
ثم بدأ الملك عبدالعزيز مرحلة جديدة بعد هذا الدخول هي مرحلة البناء والتنمية، ليبدأ عهد التطور والازدهار للمملكة العربية السعودية، وفي عهد الملوك أبنائه الذين توالت عنايتهم بمكة المكرمة والحرم الشريف؛ استكمالًا لمسيرة الملك المؤسس... والتي نشهد آثارها إلى يومنا الحاضر بما يوليه خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز وسمو ولي عهده الأمير محمد بن سلمان من اهتمام ورعاية لشؤون مكة المكرمة والحرم الشريف وخدمة ضيوف الرحمن.
** **
د. سعيد بن سعد القحطاني - أستاذ التاريخ الحديث المساعد - جامعة الملك سعود