د.سالم الكتبي
دائماً ما تثبت دول مجلس التعاون أن ما يجمع بينها أكثر مما يفرقها، وأنها تمتلك إرادة قوية على لم الشمل، وهذا ما حدث بالضبط في قمة الرياض، ليثبت المجلس للعالم، بعد أربعة عقود من تأسيسه، قدرته على البقاء سقفاً يلتقي تحته الأشقاء في الدول الست.
الحقيقة إن قمة الرياض تمثل تأسيساً جديداً للمجلس ليس لأنه تجاوز الخلاف العابر بين الأعضاء فقط، ولكن أيضاً لأن المجلس لا يزال الحاضنة الأساسية لآمال وطموحات الشعوب الخليجية، التي كانت، ولا تزال، تنتظر الكثير على صعيد العمل الجماعي المشترك. وكل ذلك يعكس المرونة والديناميكية التي تتسم بها الدبلوماسية الخليجية التي تعلي المصالح المشتركة للشعوب وتتجاوز محطات الخلاف بشكل يعكس تجذر قيم الأخوة والروابط التاريخية المشتركة التي تجمع شعوب الدول الست.
الحقيقة التي يصعب القفز عليها أيضاً تتمثل في الدور المشهود الذي تقوم به المملكة العربية السعودية في لم الشمل وتوحيد الصفوف سواء من خلال الجولة الخليجية التي قام بها ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان قبيل انعقاد القمة، أو جهود القيادة السعودية المتواصلة من أجل تنقية الأجواء وإعادة الاصطفاف الخليجي وخصوصاً في قمة العلا، وهو دور يعكس مكانة المملكة وثقة الأشقاء بها وما تحظى به من احترام وتقدير من الجميع إقليمياً ودولياً.
الإشارة الأهم في القمة الأخيرة أن المجلس بات المؤسسة العربية الوحيدة القادرة على تجاوز الصعاب والتحديات والحفاظ على تماسكها رغم كل العقبات والخلافات التي دفعت الكثيرين خلال السنوات الأخيرة للقطع بـ «وفاة» المجلس كتكتل جماعي خليجي إقليمي، ولكن ما حدث واقعياً أن المجلس يبقى ويستمر بفعل حكمة القادة وقدرتهم على الحوار والنقاش مهما كانت حدة الخلافات والتباينات، بحيث تبقى دول المجلس ظاهرة فريدة في عالم السياسة العربي، الذي يعاني بشدة جراء الانقسامات والتشرذم.
آمال كبيرة عُلقت على مجلس التعاون عقب انعقاد الدورة الثانية والأربعين للقادة، وما يهمني في ذلك كله أن المجلس قد نجح في تجاوز مرحلة من أصعب المراحل التي مرت عليه، وحافظ على بقائه وتماسكه، وأنه اكتسب الكثير من النضج والخبرات التي تسمح بإدارة الخلافات بشكل حضاري والتوصل لحلول ومخارج ملائمة للجميع من دون أن يتسبب ذلك في عرقلة مسيرة المجلس.
ولا شك أن البيان الختامي الصادر عن قمة الرياض جاء عاكساً لنقلة نوعية في التعاطي مع التحديات الاستراتيجية التي تواجه دول المجلس وشعوبه؛ فالنص على أن «أي اعتداء على دولة عضو في المنظمة هو بمثابة اعتداء على جميع الأعضاء فيها»، وإن كان يقرر واقعاً قائماً، فإنه يترجم قناعة القادة الخليجيين بأن المجلس لا بد أن يكون مظلة حقيقية تشعر شعوبنا جميعها بالأمان والاستقرار تحتها، من خلال إرساء مبادئ وأسس قوية واضحة.
ورغم أن البيان الختامي للقمة قد أكد مواقف دول المجلس حيال القضايا والثوابت الخليجية مثل قضية الاحتلال الإيراني للجزر الإماراتية الثلاث المحتلة، فإنه قد بعث برسالة سلام إلى الجار الإيراني حيث أعرب القادة عن «تطلعهم أن يكون للإدارة الإيرانية الجديدة دور إيجابي في العمل على ما من شأنه تخفيف حدة التوتر وبناء الثقة بين مجلس التعاون وإيران، وذلك وفقاً للأسس التي سبق أن أقرها المجلس وتم إبلاغ الجانب الإيراني بها، ولكن الجانب الإيراني ـ كعادته ـ يرفض أي تعامل جماعي مع دول المجلس، وليس سراً القول بأن تفكيك المجلس كان ولا يزال هدفاً استراتيجياً إيرانياً حيوياً، حيث رأى المتحدث باسم الخارجية الإيرانية، سعيد خطيب زادة، أن عدداً قليلاً من الدول الأعضاء ما زالت تبدي مواقفها غير البناءة باسم مجلس التعاون، داعياً هذه الدول إلى «إعادة النظر في رؤيتها ومقارباتها تجاه القضايا الإقليمية واستبدال مسار الاتهامات المكررة بأسلوب التعاون» متجاهلاً الدعوة الموجهة للقيادة الإيرانية الحالية للعمل على بناء الثقة بين إيران ودول مجلس التعاون وتخفيف حدة التوتر بين الجانبين.
اللافت أن رد الفعل الإيراني حيال ما ورد في البيان الصادر عن قمة الرياض قد تضمن مواقف إيرانية أكثر تشدداً حيال قضية الجزر الإماراتية الثلاث المحتلة على سبيل المثال، حيث قال المتحدث باسم الخارجية الإيرانية في تعليق على البيان الخليجي «تدين الجمهورية الإسلامية الإيرانية أي ادعاء بشأن الجزر الثلاث وتعتبره تدخلاً في شؤونها الداخلية ووحدة أراضيها، وإن تكرار هذه المواقف والتدخلات بأي شكل من الأشكال مرفوض تماماً ولن يكون له أي تأثير على الحقائق القانونية والتاريخية القائمة»، وهو موقف أكثر تشدداً حيال هذه القضية بالنظر إلى أن إيران كانت تزعم دوماً أن القضية نتاج «سوء فهم» بينها وبين الإمارات (!) في حين يأتي النظام الحالي الذي يتحدث كثيراً عن رغبة في تنقية الأجواء مع جيرانه الخليجيين، يأتي بتوصيف جديد لقضية احتلال الجزر الإماراتية الثلاث ويعتبرها «تدخلاً في الشؤون الداخلية الإيرانية»، ما يعني الرفض التام لفكرة الحوار حول مصير الجزر الإماراتية المحتلة!
الخلاصة أن حفاظ دول مجلس التعاون على تماسكه المؤسسي ووحدتها السياسية هو الاستراتيجية الأفضل للحفاظ على مكتسبات شعوب الدول الست.