وَدَّع الدنيا يوم الأحد 25-3-1443هـ أستاذنا الجليل، وشيخنا الوقور الأستاذ الدكتور عبدالله بن حمد الخثران؛ وذلك إثر عملية جراحية في القلب، ووري جثمانه الثرى بعد عصر الاثنين 26-3-1443هـ.
وقد بلغني الخبر بعد عشاء الأحد ليلة الاثنين؛ فطافت بي الذكريات التي تمتد إلى ما يزيد على خمسٍ وثلاثين سنة؛ فتذكرت دروسه في النحو والصرف التي كان يلقيها علينا لما كنا طلاباً في الجامعة؛ وتذكرت ما كانت عليه تلك الدروس من الجلالة والمهابة، وما كان يتخللها من العلم، والفوائد الجمة؛ إذ لا يخفى أن مادتي النحو والصرف من أصعب المواد، وأحفلها بالمسائل الدقيقة، والتفريعات الكثيرة التي تحتاج إلى ضبط، وبسط، وإيضاح.
والذي يمارس تدريس النحو والصرف يدرك ذلك تماماً؛ فلا يكفيه مجرد الإلمام العام، وتصور المسائل تصوراً مجملاً، بل يحتاج إلى دقة، ومهارة، وجهد جهيد كي يوصل المعلومة على الوجه الذي ينبغي.
ولقد كان أستاذنا الجليل الدكتور عبدالله الخثران على هذا الطراز النادر، ومن أعظم ما يمثل تلك المعاني؛ فلقد كان مدرسة في الحزم، وأداء أمانة الدرس. ولم يكن حزمه في ضبط قاعة الدرس، وحسن إدارتها فحسب؛ بل كان من أول حَزْمِهِ حزمُه مع نفسه؛ فتراه قبل الدرس على خير ما يرام من الاستعداد النفسي والبدني، وحسن الهندام، وما يسبق ذلك من إعداد الدرس والتمكن من المادة العلمية، والإلمام بكل شاردة وواردة حوله، والحرص الشديد على الحضور في الوقت المحدد لقاعة المحاضرة.
وبعد دخوله القاعة، وإلقاء السلام على الطلاب يبدأ بكتابة عناصر الدرس على السبورة بخطه الواضح الجميل، ثم يشرع بشرح الدرس جزئية جزئية وهو واقف لا يجلس حتى نهاية الدرس.
ولا ينتهي من شرح المادة إلا وقد امتلأت السبورة بكتابة كل ما يريد شرحه وإيضاحه.
ولا يخفى ثقل مادتي النحو والصرف على الطلاب، وحاجتهما إلى الإصغاء التام، وربط المسائل ببعض، وحسن الانتقال من المجملات إلى التفصيلات، ومن القواعد العامة إلى استثناءاتها، ومن مُطَّردها وقياسِيِّها إلى سماعِيِّها وشذوذاتها.
وكل ذلك مدعاة للملل والسآمة غير أن أستاذنا الجليل يلطف ذلك بحسن الإلقاء، والتشويق، والتطبيق؛ فينشغل الطلاب بذلك عن ثغرات يَفْرَغُون فيها لاصطياد نكتة، أو التماس غميزة.
وكان مما يلطف به من حرارة الدرس استمتاعه بالدرس، وبروعة إلقائه للشواهد؛ إذ كان يلقيها بطريقة محببة للنفس؛ فكأنك تعرف وجه الاستشهاد من البيت الشعري من طريقة إلقائه، ولكأني أشاهده الآن وهو يشرح باب المنادى مستشهداً بقول الشاعر:
يا حَكَم بن المنذر بن الجارود
سرداق المجد عليك مدود
وقول الآخر:
يا ابن أمي ويا شُقَيِّق نفسي
أنت خَلَّلفْتَني لِدهَرٍ شديدِ
وقول الآخر في باب التوكيد:
وقلن عن الفردوس أول مشرب
أجل جَير إن كانت أُبيحت دعائره
وغيرها كثير جداًّ.
وما إن ينتهي الدرس إلا وقد جمع أطرافه، وألقاه تماماً على الذي أحسن.
وكنا نكتب معه، ونعلق، وما زلت أحتفظ بتلك الدفاتر، وأرجع إليها بين الفينة والأخرى.
فإذا فرغ من الدرس استمع إلى الأسئلة سواء كانت داخل الموضوع أو خارجه؛ فيجيب عليها بكل سرور وأريحية.
ولم يكن يكدر عليه إلا إذا رأى طالباً متكاسلاً، أو متشاغلاً، أو نائماً؛ فإنه -حينئذ- يَدَعُ الشرح قليلاً، ونرى عليه علامات ضيق الصدر، والأسف؛ جرَّاء ما يرى من قلة الاهتمام.
ولا نعدم في مثل هذه المواقف من قصة، أو مثال، أو نحو ذلك مما يستنهض به الهمم، ويحذر من مغبة الإهمال والكسل.
ومن جميل تلك الدروس ما يتخللها من النصائح، والتوجيه، والدلالة على الكتب، والتربية على الكمالات، وصحة التفكير والحكم على الأشياء، واحترام العلم، والتعريف بالعلماء، ونحو ذلك مما يضفي جمالاً على تلك الدروس.
ولم يكن ذلك الحزم من شيخنا الجليل بالغاً الشدة المفرطة، والصرامة المتعدية لأطوارها بل كان يلطفها بالرحمة، والحلم، والحدب، والتواضع، والأبوة الحانية، والنكتة الحاضرة، والروح المرحة.
ومن هنا كانت كلماته صادقة تذهب توًّا إلى القلوب، وتثمر ما تثمر من علم نافع، وعمل صالح، وخلق فاضل.
ومن صفات شيخنا المعروفة عنه سلامة الصدر، والإخلاص، وصدق اللهجة، وطهارة المنطق، والتجافي عن هُجْر القول، والبعد عن الانتصار للنفس، والحرص الشديد على الارتقاء بالطلاب، والنهوض بهم.
ومما أذكره أننا لما كنا -معشر طلابه- في المستويات الأخيرة، وكنا سنبدأ بالتطبيق، وإلقاء الدروس في بعض المدارس- كانت لدينا الرهبة من خوض تلك التجربة الجديدة.
ومع أننا كنا نَدْرُسُ مادة خاصة بذلك، وهي مادة التربية - طلبنا من شيخنا أن يعطينا توجيهاً حول ذلك؛ فخصص لنا درساً وضَّح لنا من خلاله كيفية إلقاء الدرس، وإدارة الفصل، وتوزيع الجهد؛ مما يسر لنا تلك المهمة الجديدة.
ومن أعظم الخصال المعروفة عن شيخنا الدقة، والعدل، والأمانة العلمية؛ فقد بلغ في ذلك مبلغاً كبيراً.
ويلحظ ذلك في وضعه للأسئلة، وتقويمه، وتصحيحه أوراق الإجابة. أما وضعه الأسئلة فقد كان يكتبها بخط جميل، وبلغة واضحة سليمة لا تحتمل التأويل؛ فتعرف من خلالها ماذا يريد من السؤال.
وأما تقويمه وتصحيحه، فكان غاية في الدقة والعدل والأمانة؛ فإذا حسب الطالبُ المنصفُ درجته، وجد أنه قد أخذ حقه كاملاً غير منقوص.
والغريب أن تلك الخصال من حزم، ولطف، وحماسة في إلقاء الدروس، وما جرى مجرى ذلك مما مضى- استمرت معه طيلة حياته التدريسية سواء في مرحلة البكالوريوس، أو الدراسات العليا.
وكثيراً ما أسأل الطلاب في مراحل مختلفة؛ فكانوا يذكرون عنه تلك الصفات، وأنه لم يتغير منها شيء.
وهذه حالة غريبة؛ إذ ترى بعض الناس في بداية حياته التعليمية وهو على قدر من النشاط، والحيوية، ثم لا يلبث أن يصير إلى حال من الخمول والدعة.
بل الأعجب من ذلك أن ترى بعضهم في بداياته، وهو على حال من التفريط، والكسل.
أما شيخنا فلم تنطفئ تلك الجذوة عنده، ولم يَخْبُ أوارها في قلبه، ولم تفارقه لذة العلم والإخلاص له، ومتابعة الجديد في التخصص.
بل لقد ذكر لي الأستاذ الدكتور أحمد العضيب -حفظه الله- أنه في أخريات أيامه يزيد حماسةً، وتوقُّدًا، وحرصًا على نفع الطلاب.
ولهذا عَلِقَتْ محبته في قلوب طلابه، فصاروا يذكرونه بالخير، ويخصُّونه بالدعاء، ويتعاهدونه بالزيارة.
وقد أكرم الله كاتب هذه السطور بعلاقة متينة، وذكريات جميلة، وتواصل مستمر مع أستاذنا الجليل الدكتور عبدالله الخثران؛ إذ لم أنقطع عنه منذ أن تخرجت من الجامعة إلى أن فارق الدنيا.
بل كان -رحمه الله- كثيراً ما يبادر بالاتصال، وإرسال السلام مع بعض طلابه.
وكان من أمتع لقاءاتي به يوم أن زرته في منزله العامر بعد عصر الجمعة 15-4-1438هـ بصحبة الأخ الدكتور سليمان بن عبدالله النتيفي، والأخ الأستاذ مبارك بن محمد الصواط، وبحضور تلميذه البار الدكتور عبدالعزيز الخريف -حفظهم الله- فاستقبلنا بأحسن ما يكون من الحفاوة، وكانت جلسة من أمتع وألذ ساعات العمر، وقد ذكَّرته بمحبة الطلاب له، وبأثره الذي أبقاه في نفوسهم، واصطحبت معي بعض الدفاتر التي كنت أعلِّق فيها ما يلقيه من الدروس؛ فكان يفرح بذلك، ويشكر الله على ما منَّ به عليه، ويسأله القبول، وحسن العمل والختام.
ولقد لاحظت خلال فترته الأخيرة ما هو عليه من زيادة السكينة، والطمأنينة، والرضا، والأنس بالله، والقرب منه -عز وجل-.
وقد أخبرني أنه قد شرع في حفظ القرآن، وأنه قد حفظ أجزاء منه، ويرغب في إتمام الحفظ، وحدثني حديثاً مطولاً عن بعض ذكرياته، وبداياته، ودراسته، وتدريسه، وقال -أيضاً-: إنه شرع منذ فترة في التعليق على تفسير الكشاف، وقطع فيه شوطاً كبيراً.
ولقد أخذت منه موعداً لزيارتي في محافظة الزلفي؛ ليراه محبوه، وطلابه؛ فوعد بذلك.
وقد أخبرني الدكتور عبدالعزيز الخريف أن أستاذنا الجليل قال له: سنزور الزلفي بعد انجلاء جائحة كورونا، ولكن الأجل وافاه قبل ذلك. وبعد، فهذه كلمة يسيرة عجلى لا تفي بأقل القليل من حق شيخنا الجليل.
ولعل الله ييسِّر فرصةً أوسع؛ كي يُفَصّل فيها القول عن شيخنا المبارك، وعسى أن يوفِّق الله أولاده البررة، وبعض طلابه ومحبيه؛ لجمع تراثه العلمي، وإخراجه في حلة قشيبة، وتقديم ما لديهم حول تلك السيرة الغراء؛ لتكون نبراسًا، ومنارًا يُذَكِّر بالعلماء الأوائل الذين قدروا العلم حق قدره، وتخلل منهم مسلك الروح:
وقد كنا نَعُدُّهم قليلاً
فقد صاروا أقل من القليل
اللهم اغفر لشيخنا أبي راشد، وجازه عنا خير ما جزيت عالماً عن طلابه.
اللهم أكرم وفادته، وأنزله منازل السابقين المقربين، وأحسن العزاء لأهله وذويه، ومحبيه، واطرح البركة في ذريته، واجعل ما قدمه من العلم والتعليم شافعًا لدخول جناتك، رافعًا لدرجاته عندك، والحمد لله رب العالمين.
** **
- د. محمد بن إبراهيم الحمد