عبد الله سليمان الطليان
الرجل العصامي هو الشخص الذي يعتمد على نفسه في تدبير شئون حياته، ويحقق النجاح ويصل الى مكانه عالية في المجتمع، وغالبا ما نجد وجود العديد من يتصف بهذه الصفة في الكثير من المجتمعات ولكن بدرجات متفاوتة من حيث التحقيق الكامل لتلك الشخصية العصامية، ولقد اعطانا المؤرخ وعالم السياسة الأمريكي صامويل هنتنجتون مثالا في ذلك من خلال كتابه (من نحن؟) الذي قام فيه بتحليل وتسليط الضوء على شخصية الفرد الأمريكي في أحد أجزائه (وكيف صنع نفسه بنفسه؟) وقال إن معظم الطوائف البروتستانتية تؤكد دور الفرد في تحقيق معرفة الله مباشرة من الإنجيل دون وساطة من هيئة الكهنة ومعرفة الخير والشر، ولهذا نجد أن الثقافة البروتستانتية جعلت من الأمريكيين أكثر فردية في العالم، وذكر أن هناك مسحًا أجرى في عام 1995 - 1997 عن القيم العالمية، فسئل أفراد في 48 دولة هل الأفراد أو الدولة هي المسئولة الأولى عن رفاهيتهم، وقد جاء ترتيب الأمريكيين (مع السويديين) أقرب في المرتبة الثانية من السويسريين في تأكيد المسئولية الفردية، وفي مسح أجري لـ15 ألف مدير في دول عديدة، أحرز الأمريكيون أعلى مرتبة في الفردية، وحصل اليابانيون على أدنى مرتبة، بينما جاء ترتيب الكنديين والبريطانيون والألمان والفرنسيين بين الاثنين، وخلص معدو المسح إلى النتائج التالية (إن المديرين الأمريكيين أهم أقوى الفرديين بكثير في عيناتنا القومية، كما أنهم أكثر الذين يتلقون توجيهاتهم من داخل أنفسهم، فهذا اعتقاد الأمريكيين الذي يقوم على (أنك يجب أن تحزم أمرك) وأن تقوم بنفسك بالعمل الذي يخصك بدلا من أن تسمح لنفسك بأن تتأثر كثيرًا بالآخرين أو بتدفق خارجي من الأحداث.
ويضيف أيضا أن أخلاقية العمل هي سمه مهمة في الثقافة البروتستانتية، ومنذ البداية كان دين أمريكا هو دين العمل، وفي المجتمعات الأخرى فإن الوراثة والطبقة والوضع الاجتماعي والأثنية والأسرة هي المصادر الرئيسية للوضع الاجتماعي والشرعية، والعمل في أمريكا هو أهم شيء، وفي المجتمعات الأرستوقراطية والاشتراكية فإن هناك ميلا بطرق مختلفة للتقليل من شأن العمل وعدم التشجيع عليه، أما المجتمعات البرجوازية فإنها ترفع من شأن العمل، وأمريكا باعتبارها مجتمعا برجوازيا مثاليا فإنها تعظم من شأن العمل، وعندما تسأل أي أمريكي: ماذا تعمل؟ فإنه لا يجرؤ على أن يجيب: (لا شيء) فالعمل مصدر إثبات الذات والاستقلال وكما يقول بنجامين فرانكلين (كن مجتهدا وحرا)، علق الفرنسي ميشيل شيفاليه عالم في الاقتصاد والسياسة وصحفي حينما زار أمريكا في الثلاثينيات من القرن التاسع عشر بقوله: (إن السلوكيات والعادات هي لمجتمع عامل ومشغول، فالشخص الذي لا مهنة له، والشخص غير المتزوج – وهما يتعادلان تقريبا - لا يحظيان باعتبار المجتمع، أما النشيط والمفيد للمجتمع، والذي يسهم بنصيبه بالإضافة للثروة القومية وزيادة عدد السكان، فهو الوحيد الذي ينظر إليه باحترام وتعاطف، لقد نشأ الأمريكي على فكرة أنه سيعمل بمهنة معينة وإنه إذا أظهر نشاطا وذكاء، فإنه سيتحكم في مصيره، وهو لا يتصور ان يعيش بلا مهنة، حتى وإن كانت أسرته غنية. وعادات الحياة تتصل بالشعب العامل وحده. ومنذ يستيقظ الأمريكي فإنه ينخرط في العمل الذي يستغرقه حتى يحين موعد نومه. وحتى وقت تناول الغداء لا يعتبره فترة للاسترخاء، فإنه انقطاع عن العمل غير مقبول لهذا يختصره قدر الإمكان).
ويستطرد الكاتب فيقول في التسعينيات من القرن العشرين استمر الأمريكيون كشعب محب للعمل، فهم يعملون ساعات أطول، ويأخذون إجازات أقصر، مما يحصل عليه الناس في الديمقراطيات الصناعية الأخرى، وكانت ساعات العمل في المجتمعات الصناعية الأخرى قد بدأت تقل، أما في أمريكا، فإذا كان قد طرأ عليها شيء فهي أنها كانت تزيد ولا تنقص، ففي المجتمعات الصناعية بلغ متوسط ساعات العمل للعامل الواحد في 1997 ما يلي: في أمريكا 1966، وفي اليابان 1889، وفي أستراليا 1876، وفي نيوزلندا 1838، وفي بريطانيا 1731، وفي فرنسا 1656، وفي السويد وفي ألمانيا 1560، وفي النرويج 1399وقد عمل الأمريكيون في المتوسط 350 ساعة في السنة أكثر من الأوروبيين، وفي عام 1999عمل 60 في المائة من المراهقين الأمريكيين ثلاث أضعاف متوسط ما عمله المراهقون في الدول الصناعية الأخرى، ويقول إن الأمريكيين من الناحية التاريخية لهم اتجاهان متضادان بالنسبة لوقت الفراغ. وغالبا ما كانوا يشعرون بالذنب تجاه كيفية قضاء وقت الفراغ ويحاولون أن يجعلوه متوافقا مع أخلاقياتهم في العمل، ويميلون إلى أن يخصصوا إجازتهم في الأعمال الجيدة وتحسين الذات وليس فقط في وقت الفراغ غير المنتج، ويقول أخيرًا أن الأمريكيين يجدون متعة في عملهم وانتماء إليه أكثر من الآخرين وقد جاء في مسح القيم الدولي لعام 1990 الذي أجرى في عشر دول، أن 78 في المائة من الأمريكيين قالوا إنهم يشعرون بقدر كبير من الفخر في عملهم، وكان عدد البريطانيين وحدهم مقاربا، أما في معظم الدول فإن أقل من 30 في المائة من العمال أعربوا عن هذا الرأي،
وبعد هذا الطرح لا بد من أن نبدى بعض الملاحظات على ما جاء به الكاتب صامويل هننتجتون، حيث أشار إلى التعاليم البروتستانتية وأنها كانت مصدر الهام لصناعة إنسان متفرد في طريقة تفكيره التي أوجدت منه أمة عظيمة وهذا ليست ميزة فهناك التعاليم البوذية ظهرت في اليابان والصين ونحن نرى التفوق الياباني وكذلك التفوق الصيني الذي لم يعتمد على الثقافة البروتستانتية بل اعتمد على أخلاقيات العمل المعروفة في الانضباط وتقدير قيمة الوقت، الملاحظة الأخرى التي ساعدت في جعل أمريكا متفوقة هو كبرى المساحة وغزارة الإنتاج الصناعي الضخم هو الذي ساعد أمريكا في هذا التفوق، كما هو حاصل الآن بالنسبة للصين التي تشهد تقدما صناعيا مبهرا، ولهذا نرى أن الكاتب لديه بعض التحيز والمبالغة لما هو أمريكي الذي ينبع من النظرة التي تمجد الجنس الأبيض الذي يملك وحده عنصر التفوق.