صبحي شبانة
الجولة التي قام بها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان إلى دول مجلس التعاون الخليجي واستبق بها القمة الخليجية الثانية والأربعين تشير إلى أن هناك نمطًا فكريًا وجيوسياسيًا واعيًا جديد يؤمن بضرورة إعادة هندسة المنطقة من جديد بما يؤمن مصالحها وشعوبها، ويرتكز على عمقها الخليجي والعربي، ويرتكن إلى هويتها وتاريخها، ويؤمن بضرورة جذب كل الأطراف الخليجية والعربية إلى دولة المركز في العاصمة الرياض لبناء منظومة خليجية عربية تحافظ على هويتها، وتؤمن استقرار دولها، وتحمي مصالحها.
الحقيقة أن كل ما يتابع التحولات والمحاولات التي تقودها المملكة في الخليج والمنطقة، تهدف إلى ترميم العلاقات البينية الخليجية والعربية، وإعادة بناء الثقة عبر الحوار متعدد المستويات، والبحث عن حلول توافقية تحقق للجميع مصالح الرخاء والنماء والأمن والاستقرار مع بعض الدول الإقليمية التي لا يمكنها أن تغير حقائق التاريخ أو الجغرافيا، أو تحاول طمس الهوية، يدرك أن هناك تطورًا لافتًا ومتسارعًا في نمط وآليات وأدوات الحكم يريد دفع منطقة الخليج إلى الأمام دون صراعات، وطي صفحة الخلافات والأزمات، فأولوية دول الخليج هي التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وتحقيق مصالح شعوبها.
الكلمة الجامعة التي افتتح بها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان القمة الخليجية حملت رسائل قوية ومضامين لافتة خليجيًا وعربيًا وإقليميًا ودوليًا جميعها تؤرخ بأن عهدًا جديدًا يحمل الخير للجميع، عازم على طي الخلافات، وإطفاء الأزمات، وتعزيز الأمن والاستقرار في المنطقة، ودعم الحل الدبلوماسي للنزاعات الإقليمية، والعمل نحو مزيد من تنسيق الجهود لتعزيز ترابط وأمن واستقرار الدول الخليجية في ظل التحديات العديدة التي تواجهها المنطقة واستكمال بناء تكتل اقتصادي مزدهر، وإيجاد التوازن لتحقيق أمن واستقرار أسواق الطاقة العالمية.
يحسب للقمة الخليجية التي احتضنتها المملكة حضور وزير الخارجية سامح شكري وإطلاق آلية التشاور المصري الخليجي في الاجتماع الوزاري التشاوري الذي استبق أعمال القمة الخليجية، وهو ما يشير إلى وجود رؤية جماعية للأمن القومي الخليجي والعربي والاستقرار الإقليمي ينطلق من الخليج ومصر ويمتد ليشمل دائرة أوسع إلى المحيطين العربي والإقليمي، بهدف ترسيخ الأمن والاستقرار في المنطقة والإقليم. ولقد حمل البيان الختامي للقمة رسالة قوية في هذا الاتجاه بالتأكيد على أن أمن مصر جزء لا يتجزأ من أمن الخليج، وكثيراً ما أكد الرئيس عبد الفتاح السيسي أن أمن دول الخليج جزء من الأمن القومي المصري، ولقد شهدت السنوات القليلة الماضية مؤشرات عديدة على ذلك أهمها التدريبات العسكرية المشتركة بحراً وجواً بين القوات المسلحة المصرية ونظرائها في السعودية والإمارات والبحرين، حيث جرى 12 تدريباً في البحر الأحمر والمجال الجوى في الخليج، وهو ما يعكس قراراً إستراتيجياً جماعياً بحتمية تبادل الخبرات العسكرية، وتوحيد قواعد الاشتباك مع التهديدات الخارجية، وردع القوى الساعية للفوضى والتخريب.
لاشك أن إطلاق آلية التشاور المصري الخليجي من الرياض وقبيل انعقاد القمة الخليجية يحمل ضمن ما يحمل في طياته الكثير من الدلالات المهمة التي تؤكد خصوصية العلاقات المصرية- السعودية والخليجية، واستمرار التعاون الثنائي، والتوافق على الإصلاح والاعتدال، والتقارب في إدارة الحكم، والتعاضد والتوافق بشأن الأزمات الإقليمية، وترسيخ العقيدة السياسية على اعتبار أن كلاً منهما رصيد إستراتيجي للآخر وسند احتياطي له.
نظرة عميقة إلى الملفات التي تناولتها القمة الخليجية تؤكد أن عهدًا جديدًا مبشرًا قد حل في المملكة العربية السعودية ويطل على الخليج، وأن الصورة التي خرجت بها القمة في دورتها الثانية والأربعين رسمت ملامح المستقبل الواعد الذي ينتظر المنطقة تحت قيادة شابة واعية تمتلك رؤى إستراتيجيه قادرة على التعامل الحكيم والرشيد مع الأزمات، والبحث عن حلول توافقية لها تراعي مصالح الإقليم، رسائل عديدة في كل الاتجاهات خرجت عن القمة جميعها تشير إلى أن هناك عملية إعادة هندسة للعلاقات البينية من داخل الدول الخليجية ذاتها، تستهدف تغيير نمط وشكل الصراعات الذي ساد لأكثر من أربعة عقود إلى نمط آخر يركز على بناء الثقة والتعاون والشراكات الاقتصادية التي تحقق الخير للجميع.
** **
- كاتب صحفي وإعلامي مصري