الحمد لله الذي أحسن خلقنا، وهدانا سواء السبيل، وجعل الشريعة العظيمة متناسقة مع الفطرة الإنسانية ومحافظة عليها، ومن ذلك ما خلق الله عليه البشر من حاجة الرجل للزوجة وحاجة الزوجة لزوجها، وجعل رابطة الزواج لها قداستها وضوابطها التي تكفل للزوجين الحياة السعيدة في الدنيا وتقاسم المسؤوليات والحقوق، وكذا السعادة في الآخرة، وَمِن آياتِهِ أَن خَلَقَ لَكُم مِن أَنفُسِكُم أَزواجًا لِتَسكُنوا إِلَيها وَجَعَلَ بَينَكُم مَوَدَّةً وَرَحمَةً إِنَّ في ذلِكَ لَآياتٍ لِقَومٍ يَتَفَكَّرونَ [الروم: 21]
فالسعادة في الدنيا ظاهرة وملموسة للبشر، وفي الآخرة فإن المرأة المؤمنة إذا أدت واجباتها للزوج والأسرة قيل لها ادخلي من أيِّ أبواب الجنة شئت ففي الحديث الذي رواه الإمام الترمذي وحسنه عن أم المؤمنين أم سَلَمَة رضي الله عنها، قَالَتْ: قَالَ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: (أيُّمَا امْرَأةٍ مَاتَتْ، وَزَوْجُهَا عَنْهَا رَاضٍ دَخَلَتِ الجَنَّةَ)، ولكن قد يطرأ على العلاقة الزوجية ما يكدر صفوها، ويجعل الزوجين أو أحدهما في ضيق وحرج من استمرارها، فجعل الله سبحانه وتعالى للزوجين سبيلا لإنهاء هذه العلاقة ويغني الله كلا من سعته، ومن ذلك إذا كانت الرغبة من الزوجة في إنهاء هذه العلاقة فتطلب من الحاكم فسخ نكاحها والمخالعة منه برد المهر الذي دفعه لها أو ما يصطلحان عليه حسب الاجتهادات الفقهية في ذلك، كما في حديث الصحابية جميلة رضي الله عنها رواه الإمام البخاري (كتاب الطلاق، باب الخلع وكيف الطلاق فيه برقم 5273) وغيره عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما كـ(أنَّ امْرَأَةَ ثَابِتِ بنِ قَيْسٍ أتَتِ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَقالَتْ: يا رَسولَ اللَّهِ، ثَابِتُ بنُ قَيْسٍ، ما أعْتِبُ عليه في خُلُقٍ ولَا دِينٍ، ولَكِنِّي أكْرَهُ الكُفْرَ في الإسْلَامِ، فَقالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أتَرُدِّينَ عليه حَدِيقَتَهُ؟ قالَتْ: نَعَمْ، قالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: اقْبَلِ الحَدِيقَةَ وطَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً).
وفي البلدان التي دخلتها الرفاهية وانطلقت المرأة في ميادين العمل وغيره تساهل كثير من الأزواج في إنهاء العلاقة الزوجية ويتقدم عدد من النساء للمحاكم بطلب الخلع من أزواجهن عند تعنتهم في عدم التطليق والانهاء الآمن للعلاقة الزوجية، ويتبادر للجميع قصة الصحابية جميلة رضي الله عنها في مخالعتها لزوجها وعرض النبي صلى الله عليه وسلم عليها بأن ترد عليه المهر الذي دفعه لها -الحديقة- وهنا يحصل شيء من الظلم للمرأة بالزامها مقابل الخلع بأن ترد المهر الذي دفعه الزوج دون النظر في حقيقة ما نسميه في بلادنا مهرا وهو في الحقيقة تكاليف استضافة أهل الزوجة للزوج وأهلها والتجهيزات التي تعدها الزوجة لزوجها، وفي غالب الأحيان لا يكون المبلغ المدفوع كافيا لذلك فتتحمل الزوجة من أموالها أو من أموال أهلها مبالغ أخرى كان ينبغي أن تؤخذ في الاعتبار، ولذا فالذي أقترحه على الأزواج ابتداء أن يفكروا كثيرا قبل الاقدام على إنهاء العلاقة الزوجية، وأن استصلاح أحدهما للآخر أو الصبر عليه أقل تكلفة وأيسر من انهاء العلاقة ثم الإقدام على مشروع زواج جديد، أو الحرمان من الزوجية، فإن كان ولا بد لهما من إنهاء العلاقة ولم يمكن لهما إنهاءها بما يطلق عليه الطلاق الناجح وتقليل الخسائر المعنوية والمادية ما أمكن ولجئا للمخالعة فينبغي أن يأخذا في الاعتبار وكذا القضاة أو أقاربهما ألا يظلما المرأة بتحميلها مبالغ مالية وزائدة عما يكون مدخرا كالعقارات أو الأموال الطائلة والقصة الواردة في الحديث نصت على رد عقار محفوظ لم يتم استهلاكه في مناسبة الزواج أو أثناء العلاقة الزوجية، فضلا عن أن المروءة وكرم الطبع يمنع الزوج أن يلجأ زوجته للمحاكم وأقسام الشرط حتى ولو كانت سفيهة أو ظالمة إذ الفكاك منها خير له، وإن كانت عاقلة فإجابتها إلى طلبها بيسر أولى، والشريعة جعلت الطلاق بيد الرجل ليكون قدر المسؤولية وحسن إدارة المنزل والأسرة، وبالتالي لا نجعله سوطا على المرأة بحيث لا يمكنها الفكاك من زوج لا يمكنها البقاء معه إلا بدفع الأموال وتحمل الأهوال في صراعهما على الأولاد والنفقة وغيرها، الموضوع يطول شرحه وتفصيله ولكن أطمح من إخواني وزملائي القضاة أخذ ذلك في الاعتبار، بل ننتظر من المحكمة العليا أن تقرر مبدأ يراعي ذلك، والله ولي التوفيق.
** **
د. عبدالمحسن بن عبدالله الزكري - قاض بمحكمة الاستئناف التجارية بالرياض سابقاً