الرياض - خاص بـ«الجزيرة»:
التوكل على الله سبحانه وتعالى منزلة عالية من منازل الدين، ناشئة عن اليقين، باعتماد القلب على الله وحده، وتفويض الأمر إليه، والاعتماد عليه في جميع الأحوال، فلا يحصل النفع والضر إلا بإرادته.
ولقد تعددت وتنوعت توجيهات ووصايا رسولنا الصادق الأمين لدفع المسلم إلى عقيدة التوكل حتى يجني مكاسبها ويستفيد من عطائها. فما السبيل الأمثل لتحقيق ذلك في نفوس البشر في ظل المتغيرات الحديثة المتسارعة، وموجات الفتن من كل حدب وصوب.«الجزيرة» التقت اثنين من المختصين في العقيدة الإسلامية، وتحدثا حول أهمية وفضل التوكل على الله سبحانه وتعالى، مع الأخذ بالأسباب، فماذا قالوا؟.
شرط الإيمان
يقول الدكتور علي بن يحي الحدادي أستاذ العقيدة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية: علقوا قلوبكم بالله حتى لا تتعلق بأحد سواه، في كشف المضرات وحصول الخيرات قال تعالى: (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إلا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)، وإن تعلق القلب بالله وتفويضه الأمر إليه، ويقينه التام بأن تحول الأحوال بمشيئة الله وإرادته، مع الأخذ بالأسباب هو التوكل الذي أمر الله به عباده وجعله شرطاً في الإيمان فقال تعالى: (وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) ودليلاً على صحة الإسلام فقال تعالى: (وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ)، ومن حقق التوكل على الله دخل الجنة بغير حساب ولا عذاب، ومن حققه نال خيري الدنيا والآخرة، فقد وعد الله المتوكل عليه بالكفاية من كل ما يهمه فقال تعالى: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ)، ووعد المتوكلين بالوقاية من تسلط الشيطان فقال تعالى: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاستعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)، ووعدهم بالحياة الحسنة في هذه الدنيا، وبحياة أحسن منها في الآخرة فقال تعالى: (وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ * الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)، ووعدهم بالدرجات العلى والمغفرة والرزق الكريم فقال تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ).
الأخذ بالأسباب
ويؤكد الدكتور علي الحدادي أن التوكل على الله كما شرع الله وقاية -بإذن الله من الحسد والعين- كما أخبر تعالى عن يعقوب -عليه السلام- أنه قال: وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إلا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ ؛ فأمرهم بالتوكل على الله وبالأخذ بأسباب الوقاية من حسد الناس وعيونهم حتى يكفيهم الله شرها، وفي التوكل على الله عون عظيم على تجاوز المحن والمصائب والمصاعب قال تعالى: (قُل لَّن يُصِيبَنَا إلا مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)، ونحن في هذا الزمن ينبغي أن نتواصى بصدق التوكل على الله وتفويض الأمور إليه وتعليق القلوب به سبحانه، حتى لا يتسلل اليأس والقنوط إلى القلوب، كما علينا أن نفهم أيضاً أن الأخذ بالأسباب المشروعة والمباحة هو من التوكل على الله، حتى لا نفرّط فيها بدعوى التوكل على الله.. وقد بيَّن لنا النبي أن الأخذ بالأسباب من التوكل على الله ببيان واضح، فعن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لو أنكم كنتم توكلون على الله حق توكله لرزقتم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً»، فأخبر أن الطير تغدو لطلب الرزق ولا تقعد في أعشاشها تنتظر الرزق يأتيها. فكذلك نحن نأخذ بأسباب السلامة مع التوكل على الله ويقيننا التام بأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.
جلب الرزق
ويؤكد الدكتور رياض بن حمد العُمري، الاستاذ المشارك بقسم العقيدة في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، أن التوكل على الله من أعظم العبادات القلبية الواجبة على كل مؤمن، وهو وسيلة عظيمه لتحقيق ما يرجوه وتجنب ما يخشاه، إذا قام به المؤمن على الوجه الشرعي مقروناً بالتقوى والأخذ بالأسباب في كافة جوانب الحياة، فسوف يؤدي ذلك إلى تيسير أموره في حياته الدنيوية والأخروية، وكم من عبد قام بتفويض أمره إلى الله -عز وجل- فكفاه ربه ما أهمه، كما قال تعالى مؤكداً ذلك: وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (2 - 3) سورة الطلاق.
ويبين الدكتور رياض العُمري إلى أن من ثمرات التوكل أنه يجلب محبة الله: (إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ). والتوكل من أسباب الفوز بالجنة: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُم مِّنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِين) (58) سورة العنكبوت، وهو يهب المؤمن القوة والشجاعة في مواجهة الصعاب: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) (173) سورة آل عمران، والتوكل على الله أحد أسباب اكتساب الرزق وزيادته لقوله -صلى الله عليه وسلم-: «لو أنكم توكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً»، ومن أهم ثمار التوكل أنه يحمي المسلم من تسلط الشيطان وأعوانه عليه، كما قال عز وجل: (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) (99) سورة النحل.
إحسان الظن
ويشدد الدكتور العُمري على انه من المهم أن يعلم الإنسان أن تحقيق التوكل لابد له من أمرين:
أولاً: الالتجاء إلى الله وتفويض الأمور إليه مع إحسان الظن به.
ثانياً: الأخذ بالأسباب.
فمن أراد تحقيق التوكل على الله فعليه الالتجاء إليه - عز وجل - واليقين بأن مقاليد الأمور كلها بيده تعالى، وأن ما شاءه سبحانه كان وما لم يشأه لن يكون، وأن يصحب ذلك كله إحسان الظن به تعالى وأن ما يشاؤه الله لعبده المؤمن هو خير له في كل أحواله وإن كان ذلك خافياً على الإنسان أحياناً.
أيضاً مما دل عليه الشرع أهمية الأخذ بالأسباب الصحيحة سواء كانت أسباباً شرعية كالدعاء أو حسية ثبت نفعها بالتجربة كتناول الأدوية وأخذ الاحترازات الطبية من الأمراض المعدية ونحو ذلك، فإنه مأمور به شرعاً لقوله -صلى الله عليه وسلم-: «فِرَّ من المجذوم كما تفرُّ من الأسد» وقوله: «لا يُورد مُمْرِض على مُصِحٍّ»، وهذه الوصايا من النبي -صلى الله عليه وسلم- دليل على أنه ليس من الشرع ترك فعل الأسباب الصحيحة تحت ذريعة التوكل، بل إن هذا من التواكل المذموم الذي يعرض الإنسان أحياناً للمهلكات وقد قال تعالى: (وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إلى التَّهْلُكَةِ) (195) سورة البقرة.