لم تكن مسألة (أهل قُباء) من الأنصار محلّ خلاف ونزاع عند النسّابة والمؤرّخين المتقدّمين، وينبغي ألاَّ تكون كذلك عند المتأخّرين، فمصادر النسب أخبرتنا بهم، وعلى الرغم من ذلك اضطرب فيها أناس من أشباه العامة، وتخبّطوا فيها تخبّط العشواء، وزعم بعضهم أنّ بني عوف بن مالك بن الأوس ليسوا أهل قباء، وإنّما أهل قباء هم بنو عمرو بن عوف، ومما أغواهم أنهم وجدوا بعض المصادر تصف بني عمرو بن عوف بأنهم أهل قُباء، وحَرِيٌّ بالغاوي أن يسترشد حين يرى مصادر الأنساب القديمة منذ هشام الكلبي (204هـ) تنصّ نصًّا صريحًا على أنّ أهل قباء هم بنو عوف بن مالك بن الأوس، وألاَّ يلتبس عليه قول بعض المصادر: إن أهل قباء هو بنو عمرو بن عوف، فمَن له أدنى دراية بأنساب الأوس من الأنصار يعلم أنّ بني عمرو فرعٌ من بني عوف، وكذلك بنو الحارث بن عوف، وكلّ عَمريّ من هؤلاء هو عوفيّ بلا ريب حين ترفع نسبه، وأنّ ديار بني عوف بن مالك الأوسية وفرعيها بني عمرو وبني الحارث الذين دخلوا في بني زيد بن أمية من بطون بني عمرو بن عوف -كما سيأتي- كانت قباء وما يجاورها، وأنّ بني عمرو هذه غير بني عمرو بن مالك (النَّبِيت). وهذا يعلمه من له أدنى علم بنسب الأنصار.
فكل من ينتمى إلى عمرو بن عوف أو أي بطن من بطونها هو عَمريّ، وهو عوفيّ حين يُرفع نسبه، فمن قال من أهل العلم: إن أهل قباء بنو عمرو لم يرفع نسبهم، ومن قال إنهم بنو عوف رفع نسبهم إلى عوف، فهم هم، وديارهم هي ديارهم، ولا تعارض ولا اختلاف بين المصادر، وسأحرّر هذه المسألة تحريرًا أرجو أن يكون وافيًا شافيًا.
أولاً: نسب عوف بن مالك بن الأوس (باختصار):
يقول علماء النسب وعلى رأسهم هشام الكلبي (ينظر: نسب معدّ 1/ 364 وجمهرة النسب 621ت 633، وجمهرة ابن حزم 332): فوَلَدَ الأوسُ بن حارثة: مالكًا: فَوَلَد مالِك بن الأَوْس خمسة نَفَر: عَمْرًا، وهُو النَّبِيتُ؛ وعَوْفًا، وهم أهلُ قُباء؛ ومُرَّة، وهم الجَعادِر، وجُشَمُ، وهو أبو بني خَطَمَة؛ وامُرّأَ القَيس، وهو أبو بَني واقِف.
وهَؤُلاءِ بَنو عَوْف بن الأَوْس وهم مرادنا في هذا البحث، قال النسّابة:
وَلَدَ عَوْفُ بن مالِك بن الأَوْس: عَمْرًا، والحارِثَ (دخل بنوه في بني أمية بن زيد).
فَوَلَدَ عَمْرو بن عَوْف بن مَالِك بن الأَوْس: عَوْفًا، وحَبيبًا ولَوْذَانُ.
فَوَلَدَ عَوْف بن عَمْرو بن عوف: مَالِكاً، وكُلْفَةَ، وحَنَشًا.
فوَلَدَ مالِك بن عَوْف عَمرو بن عَوْف: زَيْدًا، وعَزِيزًا، ومُعَاوِيَةَ. قال الكلبي: معاوية قَبِيلة على جُدّةٍ بأُحُد ليسوا بقُباء (وذكرت بعض المصادر كالتحفة اللطيفة 1/ 123 وخلاصة الوفاء 1/ 555 أنهم أهل مسجد الإجابة) أُمَّهُم: العَوْراءُ بنت النَجّار. فوَلَدَ زَيْد بن مَالِك بن عَوْف: ضُبَيْعَة، وأُمَيَّةَ، وعُبِيْدًا. فوَلَد ضُبَيْعَة بن زَيْد: أَمَة، والعَطَّاف، وزَيْدًا. وحسبنا هذا من فروعهم.
ويتضح من نصوص النسّابة أنّ بني عوف بفرعها الأكبر بني عمرو وأخوتهم بنو الحارث الذين دخلوا في بعض فروع إخوتهم بني عمرو، أعني (بني أمية بن زيد) كما قال ابن حزم (جمهرة أنساب العرب 332 وينظر: جمهرة النسب للكلبي 621) هم أهل قباء، ويستثنى من ذلك بنو معاوية بن مالك فليسوا من أهل قباء، كما تقدم، فبقيت جلّ فروع بني عوف ومن تفرّع منهم في قباء، فلا يُستغرب أن يقال: إن أهل قباء هم بنو عوف، فهم الأصل، ولا يستغرب -أيضًا- أن يقال: بنو عمرو بن عوف هم أهل قباء، فهم الفرع الأكبر من عوف، فكل هؤلاء في قباء، إلا من نصّ أهلُ النسب على أنهم ليسوا من أهل قباء، كما أسلفت، ثم يُلاحظ أنّ عمرًا هذه مكنوفة بعوفين، عوفٍ قبلها وهو أبوها، وعوفٍ بعدها، وهو أحد أبنائها وبطونها، فعوفٌ الثانية هذه يمكن تسميتها: بـ (عوف الصغرى) ومنها مالِك وكُلْفَة وحَنَش، كما تقدّم، وبنو عمرو وجميع بطونهم يجمعهم (عوف بن مالك بن الأوس) حين يُرفع نسبهم، وبهذا يظهر لك أن مَنْ وَصَفَ (بني عوف بن مالك) بأنهم أهل قباء فهو مصيب، ومن وصف بني عمرو بن عوف بن مالك بأنهم أهل قباء فهو مصيب، أيضًا، ومَن وَصَفَ أيّ فرع من فروع عوف بن مالك بن الأوس (باستثناء بني معاوية بن مالك) بأنهم أهل قباء فهو مصيب غير غالط، ومن هنا توسّعت المصادر في هذا، كما سيأتي، وأما (بنو عمرو بن مالك) إخوة (بني عوف بن مالك) فليسوا من أهل قباء، وهم من يقال لهم: النَّبِيت، فكل من ينتمي إلى عمرو بن عوف في زمن النبوّة والخلفاء الراشدين فهو من أهل قباء إلا بني معاوية. قال العَوْتَبي الصُّحاري: «ومِن بني مالك بن الأوس: عوف بن مالك وولده، ويعرفون ببني عوف» (الأنساب 533) فقوله عن عوف وولده عمرو والحارث وعقبهم: (يعرفون ببني عوف) إشارة صريحة غفل عنها المضطربون في هذه المسألة.
ثانيًا: أقوال النسّابة المتقدّمين في أهل قباء:
1 - القائلون إن أهل قباء هم بنو عوف بن مالك: (نسبوهم إلى جدّهم الأعلى):
1 - قال هشام الكلبي في نسب معد واليمن الكبير 1/ 364: «بنو الأَوْس بن حارثة: فَوَلَدَ الأَوْس بن حارثة: مالِكًا، فوَلَدَ مالك بن الأوس خمسة نَفَر: عَمْرًا، وهو النَّبِيتُ؛ وعَوْفًا، وهم أهل قُباء»، وقال مثل هذا في جمهرة النسب. ثم قال بعد أن فرغ من نسب عوف بن مالك وبطونها وفروعهم وأراد أن ينتقل إلى غيرهم: «فهؤلاء من ولد مالك بن الأوس، وهم أهل قباء» (جمهرة النسب 621). فتأمل كيف ردّ آخرهم على أولهم حين ذكر في أوّل حديثه عنهم أنّ بني عوف هم أهل قباء، ثم فصّل في فروعهم -ومنهم بنو عمرو بن عوف- فقال عند فراغه منها: هم أهل قباء، وأراد بذلك أن يرسّخ ما ذكره في صدر الكلام ويردّ الآخر على الأول، وأن يقول: إن الفروع من نسل عوف بن مالك كلهم أهل قباء إلا من استُثني منهم، وهم بنو معاوية بن مالك. ولعمري إن هذا وحدَه كافٍ للقول: إنّ بني عوف هم أهل قباء على التعميم؛ لأن بني عمرو داخلون في عموم بني عوف.
2 - وقال ابن دريد في الاشتقاق 437 في كلامه على فروع الأنصار: «بطون الأوس ورجالهم: وَلَدَ مالكٌ: عوفًا، وهم أهلُ قُباء؛ وعمرًا، وهو النَّبيت».
3 - وقال ابن حزم في جمهرة أنساب العرب 332 في أنساب الأوس: «وهؤلاء بنو عوف بن مالك بن الأوس بن حارثة، وهم أهل قباء»، ثم قال في موضع آخر 470: «هذه بطون الأوس: بنو عوف بن مالك بن الأوس، وهم أهل قباء؛ وبنو عمرو بن مالك بن الأوس، وهم النّبيت».
4 - وقال العَوْتبي الصُّحاري في كتابه الأنساب 533 (تحقيق محمد إحسان النَّصّ): «الأوس: فولد الأوسُ بن حارثة رجلاً، وهو مالك بن الأوس، ومن مالك تفرّقت قبائل الأوس وبطونها، فولد مالك بن الأوس خمسة رهط: عمرو بن مالك، وهو النَّبِيت، فمن النَّبِيت بنو عبدالأشهل، وبنو حارثة، وبنو ظَفَر، واسمه ظَفَر كعب، فهذه النَّبِيت. وهم سكان قباء. ومن بني مالك بن الأوس، عوف بن مالك وولده، ويعرفون ببني عوف، وهم أهل قباء -أيضًا- مع النبيت». انتهى. قلت: قوله إنّ بني عمرو بن مالك الذين يعرفون بالنَّبِيت هم أهل قباء فوهم منه، فليسوا في قباء، فلعله خلط بين بني عمرو بين عوف وبني عمرو بن مالك.
5 - وقال الأشعري في نسب مالك بن الأوس: «فأولد الأوسُ: مالكًا، وأُمُّه هند بنت سُويد (أو سعد) بن كاهل بن عذرة بن زراعة، فأولد مالك خمسة: عوفًا، وهم أهل قباء، وعمرًا....»(التعريف بالأنساب 149).
فهذه أقوال صريحة لخمسة من النسابة الكبار تنصّ على أن بني عوف هم أهل قباء.
2 - القائلون إن أهل قباء هم بنو عمرو بن عوف بن مالك: (نسبوهم إلى جدهم الأدني):
وهم يقتصرون على الفرع العَمري دون العَوفي، وهو صحيح كما تقدّم، ونجد هذا في كلام جماعة من المتقدّمين، منهم: ابن شبّة، قال في تاريخ المدينة 1/ 47، قال: «عَمرو بن عَوْف... وهُمْ أَهل قُباءٍ». وقال ابن قتيبة في المعارف 1/ 110: «بنو عمرو بن عوف، أهل قباء». وقال ابن الجوزي في المنتظم 3/ 63: «بنو عَمرو هم أهلُ قُباء، وعليهم نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ». وقال الديار بكري في تاريخ الخميس 1/ 336: «وفي رواية بعث النبيّ -صلّى الله عليه وسلم- إلى الأنصار من يخبرهم بقدومه... فتلقّوا رسول الله -صلّى الله عليه وسلم- بظهر الحرّة، فعدل بهم ذات اليمين نحو قُباء حتى نزل أعلى المدينة في حيّ يقال لهم بنو عمرو بن عوف، وهم أهل قباء». ولا تعارض بين هذه الأقوال وأقوال النسّابة الذين قالوا: إنّ بني عوف هم أهل قباء، فكل الأقوال صحيحة؛ لأنّ بني عمرو بن عوف هم بطن من بني عوف، وكلهم في قُباء إلا من استثني منهم، فمن المصادر من يرفع النسب ومنهم من يخفضه، كما تقدم.
ثالثًا: نسب كلثوم بن الهدم وأمثاله:
جاء نسبه في طبقات ابن سعد هكذا: كُلثُومُ بن الهِدْم بن امرئ القَيس بن الحارِث بن زيد بن عبيد بن زيد بن مالك بن عوف بن عَمرو بن عَوْف بن مالك بن الأوس. (الطبقات الكبرى ط 3/ 623 دار صادر). وأغلب المصادر حين تنسبه تقول: العَمْري أو تقول: من بني عمرو، وبعضها يقول من بني زَيد بن مالِك، أو من بني عُبَيْد، وبعضها يقول العوفي، وهي صحيحة كلها، قال الذّهبي: أوّل ما قدم رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- إلى المدينة نزل بقباء عند الصحابي كلثوم بن الهدم بن أمرئ القيس بن الحارث بن زيد بن عبيد بن زيد بن مالك بن عوف بن عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس الأنصاري العوفي، شيخ الأنصار. (سيرة أعلام النبلاء: الذهبي،ج1-242.م38)، فكما ترى رفع الذهبيُّ نسب كلثوم إلى عوف؛ لأنهم أصل، وبنو عمرو فرع منهم، وهذا ظاهر لا يخفى على أهل العلم.
والأصل في ترتيب النسب أنّ تبدأ من الأعلى ثم تنحدر إلى من تريد ذكرهم من البطون أو الأسماء التي تنسب إليها، قال أبو البقاء الكَفَويّ في الكلّيّات 890: «والنّسب إذا كانَ إلى أبي بكر الصّديق، يُقال: القُرشِي التَّيْمِيّ البَكْرِيّ؛ لأنّ القُرشِي أعَمّ من أن يكون هاشِميًّا، والتيميّ أَعَمّ من أن يكون من ولد أبي بكر، وإن كانَ إلى عمر الفارُوق يُقال: القُرشِي العَدوي العُمَريّ، وإن كانَ إلى عُثْمَان بن عَفّان يُقال: القُرَشِي الأُمَوِيّ العُثماني، وإن كانَ إلى عليّ بن أبي طالب يُقال: القُرشِي الهاشِمِيّ العَلَوِيّ». انتهى، قلت: ويجوز أن تعكس، ولذا ترى في المصادر: القرشي التيمي، وترى: التيمي القرشي، وكذلك ترى: القرشي السهمي، وترى: السهمي القرشي، ويجوز أن تذكر بطونًا وتهمل بطونًا، لأنه يصعب ذكر كل البطون في سلسلة النسب للرجل الواحد، فيُكتفى ببعضها أو بالأشهر.
وتكون النسبة إلى كل من ينتمي إلى بني عمرو بن عوف الأوسية مثل كلثوم بن الهِدْم بعِدّة أوجه، فيقال: (كلثوم بن الهِدم العمري) بالاقتصار على البطن، و(كلثوم بن الهِدم العوفي) بالرفع إلى الأعلى، و(كلثوم بن الهِدم العوفي العمري) أو (كلثوم بن الهِدم العوفي ثم العمري) بالجمع بينهما من الأعلى إلى الأدنى، و(كلثوم بن الهِدم العمري العوفي) بالجمع بينهما من الأدنى إلى الأعلى، وربما نسبته إلى بطن أصغر كبني زيد بن مالك أو بني عُبيد بن زيد، لأنهم من سلسلته، كما سيأتي في تنبيهٍ نفيس لابن الأثير، ولذا تفاوتت المصادر، فالذهبي قال العوفي، وقال ابن الأثير في أسد الغابة 2/ 387 (العوفي العمري) وذلك في نسبٍ صحابي من بني عمرو بن عوف، هو «سالم بن عُمير بن كُلْفة بن ثَعْلَبة بن عَمرو بن عوف الأنصاري العوفي العمري»، ونجد في سير أعلام النبلاء للذهبي قوله: «سَهْل بن حُنيف، أبو ثابت، الأنصاري الأوسي العَوْفِيّ» وهذه صحيحة كلها، وكثير من مصادر السيرة تأخذ بالفرع ولا ترفع إلى الأصل، فتقول عن كلثوم بن الهدم: العمري، وبهذا تعلم علم اليقين أنّ الذهبي -رحمه الله- لم يغلط حين رفع نسب كلثوم إلى بني عوف فقال: العوفي.
وأختم مقالي هذا بنصٍ نفيسٍ ورد في أُسْد الغابة لابن الأثير، في ترجمة كلثوم بن الهِدْم نفسه، فقد استشكل بعض أهل العلم ما وجدوه في بعض المصادر القديمة، مثل: «كلثوم بن هدم، أخو بني عَمْرو بن عوف. وقيل: كانَ أحد بني زَيد بن مالِك، وقيل: أحد بنى عُبيد»، فقال ابن الأثير في (أُسْد الغابة 4/ 195، 196 ط الفكر): «قلت: قول أبي نعيم وأبي مُوسَى: كلثوم بنُ هِدْم أحد بني عَمْرو بْن عوف، وقيل: أحد بني زَيْد بْن مَالِك، وقيل: أحد بني عُبَيْد، إذا رآه من لا معرفة له بالنسب لظنّه اختلافًا، وليس كذلك. ولو ساقا نسبه لعلما أنّه واحد، فإنّ (لعله: فإنه) عُبَيد بن زَيد بن مالِك بن عمرو بن عوف؛ فمنهم من نسبه إلى عُبَيد بن زَيد، ومنهم من نسبه إلى أبيه زَيد بن مَالك، ومنهم من نسبه إلى عمرو بن عوف، وهو والد مالك، فلا اختلاف فيه»، انتهى. قلت: ولو رفعه إلى عوف بن مالك، فلا اختلاف فيه أيضًا.
وبهذا يتضح أنّ أهل قباء في عصر النبوّة والخلفاء الراشدين هم بنو عوف والبطون المنحدرة منهم، ومن بطونهم بنو عمرو والبطون المتفرّعة منهم، ومن بطون بني عمرو العوفية: عوف بن عمرو بن عوف، ويستثنى من تلك البطون بنو معاوية بن مالك. ومن لا يَعرف تركيبة القبائل وطرائق النسبة يخلط في هذا ويتخبّط ويُفسد.
** **
- د. عبدالرزاق الصاعدي