أولًا: مهادٌ عامٌّ
حظيت عبارة «أمَّا بعد» في التُّراث العربيّ قديمًا وحديثًا، بدراساتٍ كثيرة، أشبعَتْها بحثًا وشرحًا وبيانًا، واستوفَتْها إعرابًا وتوجيهًا وتعليلًا. وقد أحصيتُ منها سبعةَ عشرَ مؤلَّفًا. وكان ممَّا استجدَّ فيها في العصر الحديث موضوع التَّرقيم، وعلامته التي تُستَعمَل بعدها. وليس ذا الأمرُ ممَّا يُعدُّ استدراكًا على السَّابقين، أو ثُلْمَةً في كتاباتهم لقصورٍ أو غفلةٍ أو سهوٍ منهم؛ لحداثة نشأة علامات التَّرقيم، وجِدَّة رموزه المعهودة اليومَ، أقول: (رموزه المعهودة اليومَ)؛ لأنَّني لستُ ممَّن يرى أنَّ «القدماء أغفلوا دورَ هذه العلامات في توضيح المعنى وتبيينه، وأنَّهم لم يفكِّروا فيها البتةَ؛ لأنَّني أذهب بلا تردُّدٍ إلى أنَّ أجدادنا من المصنِّفينَ والنُّسَّاخ قد راعَوا تلك الأمارات والعلامات التي لا بُدَّ منها في كتاباتهم، وأنَّ كثيرًا منها ممَّا يُمكِنُ أن يُعدَّ لا بُدَّ منه لتحقيق أمن اللَّبس يُطالعنا في كثير من المخطوطات القديمة. وبذلك يكون علماؤنا القدامى قد أخذوا قصبَ السَّبق في التَّوصُّل إلى تلك العلامات التي يقتضيها المعنى، وتجويد الكتابة من حيث فصل الجمل ووصلها، ونهاية الكلام، أو بدايته، وغير ذلك»(1) من الشَّواهد والأدِلَّة ممَّا عزَّز به الدُّكتور عبد الفتَّاح أحمد الحمُوز مذهبَ القول بأصالة هذه العلامات في الكتابات العربيَّة القديمة(2).
فحاولتُ في هذه المقالة الموجزة -في حدود الوُسع- أن أقدِّم ما يُضيء هذه الجزئيَّة من علم الإملاء العربيّ، مُستقريًا ما تيسَّر من المصادر والمراجع، وسابرًا ما تهيَّأ فيها من تطبيقاتٍ لأهل الفنّ وأعلامه، مناقشةً ثم ترجيحًا ما نراه مناسبًا فيها، وقَمِنًا بها، والله نسأل النَّفع والقبول.
ثانيًا: حدود الدِّراسة
قصَرتُ حدودَ دراستي هذه على ما كُتِبَ في علم الإملاء والتَّرقيم في العصر الحديث؛ لتخصُّص هذه الكُتُب من جهة، وعناية مؤلِّفيها بهذه المسائل والموضوعات من جهة أخرى؛ فيكون ما يرِد فيها أصدقَ تصوير من غيره في بيان حقيقة هذه المسألة، على حين أنَّنا قد لا نجد الاهتمامَ نفسَه في كُتُب العلوم الأخرى؛ لثانويَّة هذه العلامات -إن وجِدَت- فيها، فضلًا عن تفاوت استعمالات مؤلِّفيها؛ تَبَعًا لتفاوت وِجهاتهم واختلاف أذواقهم، قال الشَّيخ أحمد زكي باشا (ت1353هـ/1934م).: «فكما يختلف النَّاس في أساليب الإنشاء، وكما تختلف مواضع الدَّلالات كما هو مقرَّرٌ في علم المعاني، فكذلك الشَّان في وضع هذه العلامات... وملاك الأمر كلُّه راجعٌ إلى ذوق الكاتب، وللوجدان الذي يريد أن يؤثِّر به على نفس القارئ؛ ليُشاركه في شُعوره وفي عواطفه. والممارسة هي خيرُ دليلٍ يهدي إلى سواء السَّبيل»(3).
أمَّا سببُ تقييد العصر بـ(الحديث) دون الرُّكون إلى الكتب القديمة من المخطوطات والمصوَّرات والمطبوعات الحجريَّة؛ فيرجع إلى خلوِّ هذه المدوَّنات من علامات التَّرقيم التي لم تكن «موجودةً في تراثنا، ولم يستعملها علماؤنا في الطَّبعات القديمة، كطبعات: بولاق، والجوائب، والهند وطبعات الحجر.. وإنَّما أخذَها مثقَّفو النَّهضة العربيَّة الحديثة من الإفْرَنج، وأصَّلوها في كتب الرَّسم الإملائيّ الكثيرة جدًّا، كما تناولها المؤلِّفون في أصول تحقيق المخطوطات وأدبيَّاته.. ولم تعتنِ المطابع القديمة بعلامات التَّرقيم إلَّا في وقت متأخِّر»(4). فهذا الفنِّ برموزه وعلامته المتداولة اليومَ حديثُ الولادة، ومنشَؤُه شيخُ العروبة أحمد زكي باشا، قال الشَّيخ عبد السَّلام هارون (ت1408هـ/1988م): «ولعلَّ أوّل نافخ في بوق إحياء التُّراث العربيّ على النَّهج الحديث هو المغفور له أحمد زكي باشا... ويضاف إلى ذلك أنَّه أوَّل مَن أشاع إدخال علامات التَّرقيم الحديثة في المطبوعات العربيَّة، وألَّف في ذلك كتابًا سمَّاه (التَّرقيم في اللُّغة العربيَّة)، طُبعَ في بولاق في زمن مبكِّر جدًّا هو سنة (1913م)»(5).
ثالثًا: معطيات إحصائيَّة
ظهر من قراءة ما تيسَّر لنا من كُتُب الإملاء والكتابة والتَّرقيم جملةٌ من النَّتائج، نُسجِّلها فيما يأتي:
1. خلوُّ كثير من مقدِّمات كتُب الإملاء والتَّرقيم من استعمال عبارة (أمَّا بعد).
2. بلغ عددُ الكتب المعتمَدة في الدِّراسة التي وردت فيها هذه العبارة أربعينَ كتابًا.
3. عدد العلامات التي استعملها مؤلِّفو هذه الكُتُب عَقِبَ (أمَّا بعد) إحدى عشرة علامةً، هي: الفاصلة «،»(6) والفاصلة المنقوطة «؛»(7) والنُّقطتان الرأسيَّتان «:»(8) والقوسان «( )»(9) وثلاث نقاط «...»(10) والنُّقطتان الرأسيَّتان مع الشَّارحة «:-»(11) والمزهَّرتان «{ }»(12) والفاصلتان «،،»(13) وأربع نقاط «....»(14) وثلاث فواصل «،،،»(15) والنُّقطة «.»(16).
4. تجدر الإشارة إلى أنَّ استعمال القوسين بنوعَيه: الهلالين والمزهَّرتين، مع هذه العبارة تمثَّلَ بحصر العبارة بهما، مقتصرًا عليها دون جملة جوابها، هكذا: (أمَّا بعد)، ومثلها مع المزهَّرتين.
5. جاءت العبارة غُفْلًا من علامة التَّرقيم في ثلاثة كُتُب(17). ولعلَّ هذا الاتِّجاه خيرٌ من الذي يُرقِّم خطأً، أو يستعملُ علامةً في غير موضعها؛ إذ «للخطأ في استخدام علامات التَّرقيم آثارٌ على المعنى»(18). أمَّا مسألة التَّرقيم -على ما أزعم- فهي مسألةُ استحسانٍ، وموضوعُ أولويَّةٍ وأفضليَّةٍ، وليست ممَّا يجب العملُ به أو تتحتَّم مراعاته في الكتابة، فتركُ الخطأ أَولى من فعل الأَولى!
6. تردَّدت هذه العلامات في الكُتُب المشار إليها على النَّحو الآتي: النُّقطتان الرأسيَّتان: (15) مرَّةً، والفاصلة، (11) مرَّةً، والقوسان الهلالان (3) مرَّات، ووردت العلامات الأخرى مرَّة واحدةً لكلٍّ منها.
رابعًا: مناقشة وترجيح
إذا ما نظرنا إلى هذه العلامات؛ لنُقرِّر الأَولى بالاستعمال في هذا الموضع، فسنجدُ أنَّ أربعَ علاماتٍ منها لم تُدرَج ضمن العلامات الصَّحيحة، ولم تُدوَّن في المصادر والمراجع المعتمدَة في فنِّ التَّرقيم، هي: النُّقطتان الرأسيَّتان مع الشَّارحة، والفاصلتان، وأربع نقاط، وثلاث فواصل؛ فيبطل بذلك استعمالها في النَّصِّ العربيّ مطلقًا بَلْهَ عبارةَ «أمَّا بعد»!
ويتأكَّدُ أنْ لا وجهَ لخمس علاماتٍ منها في هذا المقام، هي: الفاصلة المنقوطة، والهلالان، والمزهَّرتان، وثلاث نقاط، والنُّقطة؛ لأنَّ مواضع استعمال هذه العلامات لا تتوافق ودلالةَ هذه العبارة، ولا تُسوِّغُ إثباتَ واحدةٍ منها بين شطرَيها: «أمَّا بعد»، وجوابها؛ لأنَّ «أمَّا» حرفٌّ فيه معنى الشَّرط مؤوّل باسم شرطٍ تقديره عند الجمهور «مهما يكن من شيءٍ»(19)؛ لاختصاص كلٍّ من هذه العلامات بمواضعَ لا تتلئبُّ مع سياق هذه الجملة، ولا تتساوقُ ودلالةَ العلاقة الجامعة بين شطرَيها، والمتمثِّلة بعلاقة الشَّرط بجوابه.
يتبيَّن ممَّا تقدَّم أنَّ «النُّقطتان الرأسيَّتان» والفاصلة هما العلامتان اللَّتان تتزاحمانِ على هذا الموضع، أمَّا «النُّقطتانِ الرَّأسيَّتانِ» فلأنَّها «تفصلُ بين لفظة (بعد) وما يأتي بعدها ممَّا يُعدُّ جوابًا»(20). وأمَّا الفاصلة فلأنَّها تفصل «بين جمل الشَّرط والجزاء، أو بين القسم وجوابه (فيما إذا طالت جملة الشَّرط أو جملة القسم)، أو نحو ذلك»(21).
ويبدو أنَّ كفَّة «النُّقطتان الرأسيَّتان» هي الرَّاجحة في هذا المقام؛ لما يأتي:
1. خلوّ استعمالها في هذا الموضع من الاعتراضات والمؤاخذات، وسلامتها من الازدواجية والقيود التي نجدها في «الفاصلة»، كميلِ بعض الكتَّاب إلى الاستعانة بالشَّرطة (-) بين الشَّرط وجوابه بدلًا عن استعمال الفاصلة (،) بينهما(22). وتقييد بعضهم رَقمَها بطول جملة الشَّرط(23).
2. كثرة تداولها عند الباحثين والدَّارسين وشيوع استعمالها عندهم، إذ وجدتُّها -كما بيَّنه الاستقراء السَّابق ذكرُه- أكثرَ ورودًا من غيرها في كتب الإملاء والتَّرقيم والكتابة العربيَّة.
3. لأنَّها «أكثر ملاءمةً في هذا الموضع، ويُعزِّز ذلك أنَّ ما بعد هذا الظَّرف يمكن أن يُعدُّ من باب الإيضاح والشَّرح»(24). والله أعلى وأعلم.
** ** **
الهوامش:
(1) فنّ التَّرقيم في العربيَّة:9-10.
(2) انظر: فنّ التَّرقيم في العربيَّة:10-25، وتصحيح الكتب وصناعة الفهارس المعجَمة:15، 30 (هامش 2)، ومناهج تحقيق التُّراث بين القدامى والمحدثين:43-44.
(3) التَّرقيم وعلاماته في اللُّغة العربيَّة:25.
(4) مباحث في التَّرقيم: للشَّيخ صالح الأسمري:354.
(5) التُّراث العربيّ:69.
(6) انظر: أصول الإملاء للخطيب:5، وأصول الكتابة العربيَّة للباجقني:9، وأفانين إملائية لنجلاء الكثيري:1، وعلامات التَّرقيم في اللغة العربية لقباوة:5، وعنوان النجابة في قواعد الكتابة للسفطي:13، وفن التَّرقيم في العربية للحموز:6، وقواعد الإملاء لعبد السلام هارون:5، والمختار في قواعد الإملاء للنيرباني:5، ومختصر الإملاء والتَّمرين لحسين والي:5، والمرجع في الإملاء لراجي الأسمر:8، والمعجم المفصَّل في الإملاء لناصيف يمّين:6.
(7) انظر: نتيجة الإملاء وقواعد الترقيم لمصطفى عناني:3.
(8) انظر: الإيجاز في الإملاء العربي لريم الخياط:5، والبداية في الإملاء والترقيم للنقيلي:8، والتحرير العربي لجامعة الملك سعود:5، وتحفة النبهاء في قواعد الإملاء لمحمد عدنان:5، وحلية الأدباء في نظائر الضاد والظاء لحسام النعيمي:5، وصوى الإملاء لمحمود صافي:5، والعذراء في قواعد الإملاء لحمد القمرا النابت:195، وعلم الكتابة العربية لغانم قدوري:5، وقواعد الإملاء لابن عثيمين:3، والكتابة العربية من النقوش إلى الكتاب المخطوط لصالح إبراهيم:5، ولآلئ الإملاء لمحمد مامو:5، ومباحث في الترقيم لصالح الأسمري:353، والمطالع النصرية للهوريني:9، ونحو تقويم جديد للكتابة العربية لطالب عبد الرحمن:12، والهمزة في الإملاء العربيّ للخرَّاط:5.
(9) انظر: إنجلاء السحابة عن قواعد الإملاء للإزميريّ الأزهريّ:4، والضياء في قواعد الترقيم والإملاء لعبد المجيد نافع:3، وكتاب الإملاء لحسين والي:5.
(10) انظر: الكافي في قواعد الإملاء والكتابة لأيمن أمين عبد الغني:13.
(11) انظر: المجمل في الإملاء لأبي نعامة:5.
(12) انظر: المفرد العلم في رسم القلم لأحمد الهاشميّ:2.
(13) انظر: المنجد في الإملاء لأبي السعود:4.
(14) انظر: الواضح في القواعد الإملائيّة لأحمد السيد أبو المجد:5.
(15) انظر: قواعد الإملاء بطريقة ميسَّرة لعبد العزيز محمد الجابر:1.
(16) انظر: مشكلة الهمزة العربيَّة لرمضان عبد التَّوَّاب:5.
(17) انظر: علم كتابة اللغة العربية والإملاء لحسني عبد الجليل يوسف:1، وعلم النَّقط والشَّكل لغانم قدوري الحمد:5، والقواعد الذهبية في الإملاء والترقيم لأحمد محمد أبو بكر:5.
(18) مباحث في الترقيم:380.
(19) انظر: الكتاب لسيبويه:1/235، والمقتضب للمبرّد:2/253، وحروف المعاني للزَّجَّاجي:64، والجنى الداني للمراديّ:482.
(20) فنّ التَّرقيم في العربيَّة:49.
(21) التَّرقيم وعلاماته في اللُّغة العربيَّة:14.
(22) انظر: الإملاء والتَّرقيم في الكتابة العربيَّة لعبد العليم إبراهيم:101، والقواعد والذهبية في الإملاء والترقيم:59، وفنّ التَّرقيم في العربيَّة:50.
(23) انظر: التَّرقيم وعلاماته في اللُّغة العربيَّة:14، والضياء في قواعد الترقيم والإملاء:21، وعلامات التَّرقيم وأصول الإملاء للحقَّانيّ:37.
(24) فنّ التَّرقيم في العربيَّة:50.
** **
صفاء صابر مجيد البياتي - العراق، كركوك