منذ أن بدأت أستوعب ما يبثه المذياع، وأنا أسمع (أسمهان) تتغنى بصوتها الشجي:
ليت للبراق عينا فترى ما أقاسي من عناء وبلا
وسمعت بعد ذلك قصة هذه الأبيات لكني لم أبحث عن حقيقتها وحقيقة قائلها، لأني كنت أعدها من الأشعار التي تنظم لتكون حلية للقصة ليس غير، مثلها مثل الأساطير الشعبية التي حفظها لنا تراثنا العربي. وعزَّز اعتقادي بعدم حقيقة ليلى هذه والبراق عدم ورود أي ذكر لأي منهما في أي مصدر، أو مرجع من المراجع الموثوقة المتقدمة.
وحين ألفيت تعريفا موجزا للبراق بن روحان في كتاب (الأعلام) لخير الدين الزركلي رحت أبحث عن مصدره، فإذا هو يشير إلى كتاب (شعراء النصرانية قبل الإسلام) للنصراني (لويس شيخو) ووجدته يضم إلى جانب الترجمة شيئا من أخباره وأشعاره، وتساءلت في عجب: من أين أتى بهذه الترجمة وهذه القصائد والقصص التي لم ترد في مصدر متقدم؟!
وقد تنبه الباحث ناصر بن أحمد الطميزي في وقت مبكر إلى انحصار أخبار البراق وليلى في المراجع الحديثة، وذلك في رسالة الماجستير التي قدمها لجامعة الخليل سنة 1431/2010 بعنوان (الشعر الجاهلي في أرض العجم: جمع وتوثيق ودراسة) إذ يقول: «تشكل شخصية البراق بن روحان جدلا واسعًا من حيث وجودها في المصادر التراثية القديمة، إذ إن المصادر التراثية - حسب علمي - لم تذكر هذه الشخصية، ولم تعرض ملمحا واحدًا من ملامح حياتها، في حين تناقلتها المراجع الحديثة بالعرض والتحليل، مما يستدعي ذلك منَّا أن نتساءل: كيف للمراجع الحديثة أن توثق شخصية شاعرة معروفة - حسب وصفها - في حين انعدم وجودها في المصادر التراثية»؟
ويذكر الطميزي شيئا من أوهام شيخو - إن لم نسمها تدليسا - إذ يذكر مصادر تراثية اعتمد عليها، منها ما هو معروف ومنها ما هو مجهول، لكن من يتتبع مصادره لا يجد إلا سرابا. ومنها: «جاء في جمهرة أنساب العرب للكلبي: أما شعره فكثير روى منه صاحب جمهرة العرب والرواة قسما». وفي ختام الترجمة قال: «استندنا في تلخيص هذه الّترجمة إلى كتاب جمهرة أنساب العرب للكلبي، وتاريخ العرب لإسكندر أبيكاريوس، وكتاب طبقات الشعراء، ومجموع خطٍّ من الشعر القديم».
وقد أغرتني ملحوظتا الطميزي هاتان بتتبع مصادر شيخو في كتابه (شعراء النصرانية) كله، فخرجت من ذلك بملحوظات كثيرة، منها:
يقول شيخو في بداية ترجمته للبراق: «جاء في جمهرة أنساب العرب للكلبي ما ملخصه ...».
ولم أجد في جمهرة الكلبي أية إشارة للبراق.
ويقول بعد ترجمة (أفنون صريم بن معشر): «نقلنا أخبار أفنون عن كتاب الكامل للمبرد، والعقد الفريد لابن عبد ربه، وزهر الآداب للحصري، ومعجم البلدان لياقوت». وقد بحثت في زهر الآداب، والكامل، ولم أجد ذكرا له. أما في العقد الفريد فقد صحح اسمه إلى ضريم بن معشر.
وكثيرا ما يذكر شيخو عنوانات مختصرة للمصادر، لكن دون أن يذكر مؤلفيها، فيدخلنا في متاهة لا يمكن الخروج منها. فمثلا يقول بعد إيراد ترجمة (قبيصة بن النصراني): «روينا هذه الترجمة عن كتاب الحماسة وشرحها، وكتاب شعر قديم مخطوط، وطرف من جمهرة العرب». فأية جمهرة؟ وأية حماسة؟!
وأحيانا يشير إلى كتب ومخطوطات دون أن يسميها، كما قال بعد ترجمة (ليلى العفيفة): «نقلنا هذه الترجمة من مجموع خط من الشعر القديم، ومن تاريخ العرب، وطبقات الشعراء».
وقد تبين لي أي طبقات الشعراء يقصد حين قال بعد ترجمة (الأخنس بن شهاب): «تلخيص هذه الترجمة من كتاب طبقات الشعراء لأبي عبيدة، وعن كتاب شعر قديم وكلاهما خط قديم».
وهذه النسخة المخطوطة من طبقات الشعراء لأبي عبيدة يقول عنها سيزكين: «أما كتاب طبقات الشعراء الذي أفاد منه لويس شيخو في شعراء النصرانية، وذكر أنه لأبي عبيدة فلم يظهر إلى النور بعد».
ويعدد بعد إيراده ترجمة (امرئ القيس) مصادره التي منها: «مجاميع شعرية مخطوطة، وكتب غير هذه من مصنفات علماء أوربيين خبيرين بالآثار الشرقية».
وكان يمكن أن نعدَّ نقله من مخطوطات لم تحقق بعد، أو مخطوطات لم يطلع عليها المحققون ميزة له على غيره من الباحثين، لولا ما لاحظناه من عدم صحة إحالاته للكتب المطبوعة، كما مثلت آنفا.
والطريف أنه ينقل ما لا يثق في صحته، فيقول بعد ترجمة (بسطام بن قيس): «وما ذكرنا له من الشعر أخذناه عن سيرة عنترة، ونظن أنه مصنوع، صنعه مؤلف القصة، وليس بعيدا والله أعلم».
وهناك كتاب آخر ورد فيه ما ذكره لويس شيخو عن ليلى العفيفة؛ هو (تاريخ الآداب العربية) لحسن توفيق العدل، طُبع بعد وفاته بسنتين عام 1906 بمطبعة مدرسة الفنون والصنائع الخديوية، غير أن هذا الكتاب لم ينتشر، ربما لأن مؤلفه أعده ليكون مقررا مدرسيا لطلابه. حتى إن د. وليد محمود خالص الذي حقق الكتاب وطبعه سنة 2002 اعتمد على نسخة وحيدة مخطوطة بدار الكتب المصرية بخط المؤلف نفسه، لأنه لم يعثر على النسخة المطبوعة. كما لم يذكره (إلياس سيركيس) في (معجم المطبوعات العربية والمعربة) مع أنه أشار إلى كتابه (المقامة العدلية) المطبوع بعده عام1907.
وقد أبدى الباحث ناصر الطميزي حيرته أيهما نقل عن الآخر؛ لويس شيخو أم حسن العدل؟ فهما متعاصران. فلويس شيخو عاش بين سنتي (1859 و1927) والعدل بين سنتي (1862 و1904).
(للحديث صلة)
** **
- سعد عبدالله الغريبي