وفاء العمير
سمعتْ المعلمة فايزة صوت طرق خفيف على باب الفصل، فصل أول - ثالث ثانوي، فتوقفت عن تصحيح الدفتر المفتوح أمامها، ووضعت قلم التصحيح الأحمر جانبا، ثم نهضت بقامتها متوسطة الطول، والممتلئة قليلا، وسارت صوب الباب، وكعب حذائها يصدر صوت طرقات رتيبة فوق البلاط. فتحت الباب جزئيًا ببطء، فرأت الإدارية نوف واقفة أمامها، وفي يديها بعض الأوراق التي بحاجة إلى توقيعها، وفيما كانت فايزة توقّع الأوراق انخرطت في الحديث مع نوف، وأخذتا تضحكان بصوت مكتوم، لكي لا تسببًا الإزعاج لبقية الفصول. في غضون ذلك نهضت الطالبة شروق من مقعدها، خلف الطاولة الثانية في الصف الأيمن، وسارت حتى وصلت إلى مكتب المعلمة الموضوع في زاوية الغرفة، بينما تلاحقها نظرات عدد من الطالبات، بعضها بفضول، والبعض الآخر استبد به الوجل والخوف، فيما أخريات كتمن ضحكهن بأيديهن. اقتربت من المكتب، ومدت يدها بسرعة، وتناولت هاتف المعلمة فايزة وهي تقول في سرها «سوف أريك، سوف أنتقم منك» ضغطت على قائمة جهة الاتصال، وبحثت في الأسماء المدرجة فيها بينما ترفع بصرها بين ثانية وأخرى بقلق وتوتر ناحية الباب، مخافة أن تدخل معلمتها الفصل، وتضبطها وهي تعبث بهاتفها. ظهر أخيرًا الاسم الذي تبحث عنه «زوجي الحبيب» وعلى الفور كتبت رقم هاتفه بقلم الحبر الجاف على راحة يدها، ثم أعادت الهاتف إلى مكانه، بعد أن ضبطته إلى وضعه الطبيعي. انزلقت بسرعة إلى مقعدها، وراحت خلسة تنقل الكتابة التي على راحة يدها إلى ورقة في الجهة الخلفية من أحد دفاترها.
في منتصف الظهيرة كانت فايزة في منزلها قد غيرت ملابس العمل وارتدت ثوب المنزل البني الفاتح. كانت العاملة المنزلية قد أعدت كل شيء، الدجاجة مغسولة وموضوعة جانبا، والطماطم والبصل مقطع إلى شرائح صغيرة، والرز منقوع بالماء الساخن. كل ما على فايزة فعله هو وضع المكونات جميعها في القدر وطهيها. إنها مجبرة على الطهي بنفسها، ذلك أن زوجها حمود لا يطيق الأكل من يد العاملة المنزلية. خلال ما كانت تعد المائدة تنامى إليها أصوات زوجها وابنها ياسر المرحة المازحة عند دخولهما من باب الصالة. استدارت نحوهما وهتفت مبتسمة: هيّا، هيّا، غيرا ملابسكما حالا، الغداء جاهز. إنها في منتصف الثلاثين من عمرها، وزوجها شارف على الأربعين. بعد دقائق قليلة انضم حمود إليها بلباس البيت، وجلس إلى المائدة، بينما ياسر الطالب في الصف السادس ابتدائي كعادته تأخر في غرفته كي يلعب بلي ستيشن.
فجأة أصدر هاتف حمود صوت تنبيه مشيرًا إلى ورود رسالة نصية، تطلّع في الشاشة المضيئة، وقرأ ما فيها، فتح فمه مذهولا، ثم أطلق ضحكة قصيرة ساخرة، وتمتم قائلاً: يا لهم من أناس فارغين، لا عمل لديهم». سمعته فايزة فسألته «ما الأمر؟» أجابها «لا شيء» وقام بمسح الرسالة على الفور، ثم مدَّ يده وتناول قطعة من الدجاجة المشوية، ودسها في فمه.
كانت شروق تجلس في غرفتها بانتظار حصولها على رد منه على رسالتها، وعندما لم يحدث ذلك فكرت فيما إذا كان عليها أن تكتب له رسالة أخرى، أم تؤجل ذلك إلى وقت آخر؟ ثم عاجلت نفسها بالإجابة، ولمَ الانتظار، ولمَ التأجيل؟ هذا هو الوقت المناسب للمضي في انتقامها، فلقد تمادت تلك المعلمة المتكبرة في إهانتها وإذلالها أمام طالبات الفصل، كلما أخطأتْ في الإجابة على إحدى أسئلتها الخاصة بالدرس، أو لم تقم بحلّ واجباتها السخيفة، أو نالت درجة منخفضة في اختبارها العديم الفائدة. لقد طفح الكيل، ولم تعد تتحمل المزيد، وحان الوقت كي ترد لها الصاع صاعين، وتدمر حياتها، وتجعلها تضيق بنفسها كما فعلت هي معها. لن تنسى أبدًا الليالي الطويلة التي قضتها وهي تبكي على وسادتها، لقد جعلتها تكره مجرد مجيء الصباح، لأنه يعني قدومها إلى المدرسة، ثم حضور حصتها البائسة، لقد كرهتْ حتى اسم «العلوم» لأنه اسم مادتها التي تعلمها لهن. إنها اكتفت تمامًا من كل هذا، ولن تتراجع قيد أنملة عمّا نوت أن تفعله، تلك المعلمة جلبت الأذى إلى نفسها حقا. ضغطت بأصابعها على لوحة المفاتيح في الهاتف، وكتبت رسالتها الثانية، ثم أرسلتها إليه.
رن هاتفه من جديد، ما جعل فايزة تنزعج بشدة، وتنادي بشكل متوتر على ابنها لينزل من غرفته، ويشاركهما الغداء. لاحظ حمود انزعاج زوجته، فمال على الهاتف، وبطرف أصبعه ضغط على الشاشة، فظهرت الكلمات الغزلية الغريبة أمام عينيه، كانا سطرين فقط، لكنهما لاحا له وكأنهما عدد من المجلدات. انبهر هذه المرة، وعندما نهضت زوجته وصعدت إلى غرفة ابنها تحثه على النزول، جلس مستقيما نوعًا ما على مقعده، وتفحص بإمعان الرسالة والرقم المعنون في أعلاها، أنه رقم مجهول. من هذه الفتاة التي تراسله، خمن أنها فتاة، إذ لا يمكن لرجل أن يكتب له مثل تلك العبارات المتأججة بالعاطفة. كانت عبارات لم يسمعها من زوجته حتى. أنه لم يسبق له وأن أقام علاقات عاطفية مع فتيات من قبل، حتى حين ما كان أعزب. كان خجولا وقليل الثقة بنفسه، وفجأة وبينما يقترب من سن الأربعين، يحدث هذا؟ يجب عليه أن يعرف من تكون؟ هل يتصل بها إذن؟ سوف يسألها عن اسمها؟ ولماذا تفعل ذلك؟ ومن أين جاءت برقم هاتفه، والأهم من كل ذلك كيف تعرفه؟ هل رأته من قبل؟ وأين؟ كانت هذه الأسئلة تتلاطم في رأسه مثل أمواج البحر في يوم عاصف. لا يتوجب عليه أن يُظهر أي تصرف مريب من شأنه أن يجعل الشكوك تنتاب زوجته. يا للغرابة أنه يفكر الآن مثل زوج خائن، ماذا صنعت تلك الفتاة المجهولة به؟ هذا وهو لم يتعرف إليها بعد. هل هو هش إلى هذه الدرجة؟ أم أنه يشعر بجوع عاطفي وحسب؟ بغتة لم يعد يشعر بشهية لإكمال طعامه. عندما قَدِمتْ بصحبة ابنها كان هو قد غادر المائدة.
ما الذي يجري؟ تساءلتْ وقد رأت زوجها ترك المائدة ولم يتم طعامه. لم تفكر سوى في أن طهيها هذه المرة لم ينل على إعجابه، فزمت شفتيها ممتعضة، بينما ابنها بدأ يأكل بنهم.
في الغرفة وردته رسالة ثالثة، وجب عليه أن يكتب ردا، مهما كانت عواقب ذلك. كان يشعر بالغضب، وتتلبسه حيرة شديدة، وكان متفاجئا، كما يشعر بفرحة طاغية خفية. كتب يسألها من هي؟ وماذا تريد؟
فرحتْ كثيرًا برسالته، لقد وقعت السمكة في شباك الصياد. طلبت في رسالتها التالية أن تجري حديثًا هاتفيًا معه من أجل التعارف. كان مترددا، وشعر بالعرق يتقاطر على جبينه برغم برودة الجو، إلا أن فضوله ودهشته لم يتركا له مجالاً للرفض. رن هاتفه وتردد صداه في الصمت المخيم على الغرفة، فارتجف هلعا، وكأنه على وشك ارتكاب جريمة. عندما قرّب الهاتف من أذنه باضطراب، تناهى إلى سمعه صوت رقيق ناعم فخمن أنها صغيرة في السن، قد لا يعدو عمرها السابعة عشر، حبس أنفاسه وهو ينصت إليها تتحدث، عرّفته على نفسها، وذكرت اسمها، وبيّنت له مدى إعجابها به، وأنها كانت تلاحظه دائمًا عندما كان يعود من عمله، كانت تفعل ذلك من وراء نافذة غرفتها، إذ إنها تقطن في البناية المقابلة لبنايتهم. عندما جاء دوره للكلام تلعثم بشدة، فشعرتْ بخجله وارتباكه الكامل، وأسعدها ذلك، إذ إنه ينبئ عن مدى تأثيرها به، وأيقنت أنها تقترب من تحقيق هدفها.
دخلت زوجته إلى الغرفة فضغط فورًا على زر إقفال المحادثة. لم تستطع إلا أن تلاحظ باستغراب أحمرار وجهه، وأنه لم يكن على طبيعته، وهو ما لم تعهده فيه من قبل على الإطلاق. سألته لماذا لم تكمل غداءك؟ بعد دقائق من الصمت ظنتها لن تنتهي أبدا، قال بصوت خافت متقطع أنه لا يشعر بالجوع.
نبأتها غريزتها الأنثوية بوجود خطب ما، لكنها لم تلح عليه. قالت إنها سوف تأخذ قيلولة قصيرة حتى أذان العصر. كان معتادا قبل الآن أن ينام هو أيضًا بعد تناوله الغداء، لكنه كان يشعر بالنشاط يدب في أنحاء جسده، وكانت دقات قلبه تتسارع، حتى خشي أن تفر من بين أضلاع صدره.
قال لها أنه سوف ينزل إلى الأسفل ليتفرج على التلفزيون، وسألها عن ياسر فأجابته أنه نائم في سريره. اختلى بنفسه في غرفة المجلس حيث إنها مكان بعيد عن الجميع، واستجمع شجاعته ببالرغم من أنه لم يزل يرتعش من رأسه حتى أخمص قدميه. تهادى إلى أذنه ثانية ذلك الصوت الجميل العذب منتشيا بغبطة كبيرة. تحدثا وطال حديثهما لساعات طويلة. بعد ذلك توالت المكالمات والرسائل الهاتفية بينهما، واستمر هذا بضعة شهور. حاول في البداية إخفاء هذه العلاقة عن زوجته، فكان يمحو رسائلها ومكالماتها الواردة، ويتعمد إجراء محادثاته معها حينما لا تكون زوجته في الجوار. ولكن بمرور الأيام، عندما امتلأ قلبه بالعاطفة نحوها، لم يعد يأبه بمشاعر زوجته. سألته فايزة في أحد الأيام وقد شكّت في الأمر حينما سمعته يتحدث على الهاتف بطريقة غريبة، مع من يتحدث؟ اعترف لها ببساطة قائلا أنه يتحدث مع حبيبته وزوجته المستقبلية. لم تصدق ما سمعت، وشعرتْ بالصدمة تكاد تشلّها تماما، هل أنت جاد؟ سألته فاغرة الفم. أجابها بأنه جاد كل الجدية، وإنه يحق له الزواج بأربع نساء. قال هذا من حقي.
لم تعرف بماذا تجيبه؟ وأحست بالدوار يعصف برأسها من تأثير الصدمة، وكاد أن يغمى عليها. كيف وصلت الأمور بينهما إلى هذا الحد؟ إنها لا تدري.
«من هي؟» سألته بصوت متحشرج بالكاد خرج من فمها.
«هذا لا يعنيك» أجاب بغلظة ولا مبالاة.
لم يسبق لها وأن شاهدته فظا، قاسيا هكذا من قبل، لقد تبدى لها وحشا كاسرا. غمغمت « ألم نكن عائلة سعيدة، أم أنني كنت مخطئة؟»
أجاب « ظننت أننا كنا نعيش بسعادة، لكنني اكتشفت أن هذا لم يكن صحيحا. كانت حيأتي معك تسير بصورة رتيبة مملة، وقد كرهتُ هذا، والآن جاء الوقت كي يتغير كل شيء، وكي أولد من جديد مع فتاة جميلة صغيرة في السن، تمنحني العاطفة الرقيقة الجياشة التي فشلتِ أنت في منحها لي» تحول إحساسها بالانكسار والألم إلى غضب عارم، لم تستطع كبحه، ولم تُرد ذلك. فأخذت تصرخ به، وتتفوه بكلام لا تدركه، ولكن بدا ذلك من غير فائدة، لأنه تركها ومضى، وكأنها لم تعد تعني له شيئًا بعد الآن عل ى الإطلاق، بل وكأن غضبها كان يمده بشعور هائل من السرور والغرور معا.
في الليلة التي جرى فيها عقد قرانه على شروق خلدت فايزة إلى النوم في سريرها، وهي تشعر بأنها مسلوبة الروح، وحياتها كلها قد سُرقت منها على حين غرة. مررت يدها فوق الوسادة التي ينام عليها حمود بحرقة وألم. وانسابت الدموع على وجنتيها بلا توقف، كان الحزن العميق يتغلغل دون هوادة في قلبها، ويكتسح كيانها كله، حتى ضاق صدرها، ولم تعد قادرة على التقاط أنفاسها. عندما لاح الصباح جاء ياسر إلى غرفتها، كي يوقظها لتعد الفطور كالمعتاد، فقد تأخر على مدرسته. نادى عليها: ماما، ماما. وهز كتفها مرارًا، ولكنها لم تجبه، فبدا مذهولا ومحتارا، كرر مناداته لها، وهو يهزها بعنف، ولكن لا شيء، لم تندّ منها أي حركة. ارتفع صوته صارخا بهلع: ماما، ماما. وعندما يأس توقف عن ذلك، وأخذ يحدق بها. لم يفهم لماذا لا تجيبه؟ ولماذا لا تصحو من نومها؟ ولماذا ملمس جلدها بارد؟ ووجهها شاحب هكذا؟ كان مرعوبا، كان يعرف أن خطبا ما أصاب أمه، لكنه لا يعرف ما هو؟