ستسمع بين حين وآخر في زمننا هذ الصعب، بأن القراءة مهنة العاطلين والبطالين، وستتألم كثيرا من تدحرج القيم واختلال الوعي، ولكن في العودة إلى تاريخ الأفكار تخفيف لتلك الغصة التي تتأرجح في حلقك، والضيق الذي يضغط على صدرك.
دعني أعود بك إلى الحرب العالمية الثانية بعد أن وضعت الحرب أوزارها، وخرج الناس شعثا ليتفقدوا أحبابهم تحت الأنقاض حيث لا أنيس لهم سوى الدموع، وفي الوقت ذاته يعتريهم شعور يتأجج وغضب ملتهب على النخبة المثقفة، التي أدّت أطروحاتهم المختزِلة لقيمة الإنسان في نظريات متحيزة إلى الهاوية، ونبع عن التجريد العقلي المفترض إلى تجريدهم من الحياة، ليفقدوا الثقة فيهم ويسقطوهم بكل استعلاءهم على مر العقود السابقة.
وهنا في هذا اللحظة الفارقة صُنع تاريخ جديد، يعلي من قيمة الفرد والجمهور والشعب، وشيئا فشيئا بدأت تختفي النماذج العليا وتتضاءل المركزيات العميقة والمضمرة في الوعي الأوروبي، لتفسح المجال تماما للهامش والشعبي وهو يرضع من ثدي الوجودية في استغراق تام حتى بلغ الفطام؛ مع الرموز المصنوعة في عالم التواصل الاجتماعي الذين عززوا قيمة الاستهلاك اللحظي للمتع، والركض خلف الآني دونما هوادة.
هذا التقابل بين الأنا والمجتمع، بين الاستعلاء النخبوي والجنون الشعبي تفسره حقائق التاريخ وسننه ودوراته الكونية، فلكل اتجاه أو تيار زمنه الذي سيخفيه تداول الأيام؛ نظرا لأن الأجيال والأمم يصيبها الملل كحال الأفراد، فلا بد أن يعقب الهزل والتفاهة عصر جديد يبشر بالجدية والقيم، ونحن نعيش فترة تصحيح لتأسيس أخلاقي كما يطرح طه عبدالرحمن، عصر يخفف من تأليه الإنسان عند الفلاسفة، أو شيطنته كما تريد الجماهير، عصر يؤمن بأن جوهر الإنسان وعنصر تميزه في كينونته الأخلاقية، وليس في كونه حيوانا أو حيوانا ناطقا.
وحينها سيستعان بقدراتك أيها القارئ، إذا كنت قارئا منتجا وليس متزلجا على الجليد محروما من تنوير الفكر والتفقه في ضرورات العصر، ستنتعش بالماء حينما يلامسك، ويزيدك نضارة حينما تستثمر المقروء وعيا وسلوكا، وتدرك بعين البصيرة أن تفكرك في صفحة ساعة، خير من قيام ليلة...
** **
د. ماجد بن أحمد الزهراني - عضو هيئة التدريس في كلية اللغة العربية بالجامعة الإسلامية