سهام القحطاني
«النهايات السعيدة تُفسد خلود حكايات الحب».
تظل حكايات الحب غير المكتملة تربة خصبة لزراعة كل أشجار التأويل،وهذا ما يكتب لها الخلود فمعقولية تأويلها صالحة لكل مكان و زمان،كما أن الفضول التأويلي لأسباب عدم الاكتمال يلهم الذاكرة الإبداعية للإضافات المستمرة؛وتلك الإضافات هي التي تمنح الحياة الدائمة لتلك القصص.
من حكايات الحب الحقيقية غير المكتملة و الأشهر في الأدب العربي الحديث حكاية حب غادة السمّان و غسان كنفاني، ولعل السؤال المثير للحيرة في حكاية هذا الحب، هو من البطل المطلق في هذه الحكاية المرأة أو الرجل أو ان كليهما يقتسمان البطولة؟،وهو ما يعني انتفاء لفكرة البطولة المطلقة التي غالبا ما يتصدرها الرجل و تتوارى المرأة في الظل.
لكن عندما تكون المرأة في حكاية الحب هذه امرأة متمردة مثل «غادة السمان» فالمرأة هنا تُصبح هي من يتصدر البطولة المطلقة و تُعلن المكتوم و تبوح بأسرار الحب و الحبيب،محطمة «قيد أنثى الظل» و الأعراف الطوبية و متقدمة إلى نقطة الضوء الصارخة.
«نعم كان ثمة رجل اسمه غسان كنفاني..و نشر رسائلنا معا هو أيضا إقلاق لراحة الرياء و لنزعة التنصل من الصدق،وهي نزعة تُغذيها المقولات الجاهزة عن التقاليد الشرقية ،..أنا من شعب يشتعل حبا، ويزهو بأوسمة الأقحوان و شقائق النعمان على صدره و حرفه،ولن أدع أحدا يُسلبني حقي في صدقي،وإذا كانت جدتي المسلمة-مثلي-ولادة بنت المستكفي قد فتحت خزائن قلبها منذ تسعة قرون تقريبا، فلِمَ أخشى أنا في زمن المشي فوق سطح القمر ،ولماذا يكون من حقها أن تقول في ابن زيدون:
ترقب إذا جنّ الظلام زيارتي**فإني رأيت الليل اكتم للسر
وبي منك ما لو كان بالشمس لم تلح**وبالبدر لم يطلع و بالنجم لم يسر.
فلماذا لا أجرؤ على نشر رسائلي ورسائله دونما تبديل أو تعديل بغض النظر عما جاء فيها أو لم يجيء؟»- كتاب رسائل غسان كنفاني إلى غادة السمان، بقلم غادة السمان»
إنه «إعلان حب» بلسان امرأة تحدّت فيه الأنساق الشرقية بأنواعها.
غسان كنفاني روائي و كاتب فلسطيني و متحدث رسمي باسم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين عام 67م،كان اغتياله نقطة تحول في سيرته من «أديب» إلى «بطل»،روائي واقعي رسم رحلة حياته على الورق كما رسمها القدر على الأرض في «عائد إلى حيفا» و»أرض البرتقال الحزين» و»موت سرير» و «رجال في الشمس»، فقد تحولت رواياته و قصصه و مقالاته إلى «ذاكرة تاريخية متنقلة» ترصد الألم و الوجع و التشرّد، ومع كل هذا الألم كانت هناك مساحة و لو ضيقة «للحب» في حياة غسان.
في حياة غسان كنفاني العاطفية امرأتان، زوجته الدنماركية مدرسة الأطفال التي جاءت من الغرب إلى الشرق لتوثيق معاناة الشعب الفلسطيني ولعل شغفها بالقضية الفلسطينية كانت نقطة التقاء القلب بينهما،نقطة تحولت إلى حياة كاملة و طفلين.
والمرأة الثانية هي «غادة السمّان» التي أحبها بمعايير تفوق معايير الحب التقليدي لأن غادة امرأة غير تقليدية أو قل حبّ يتمرد على مسطرة المعايير وقوانين المعقولات لأن غادة السمان هي كذلك امرأة لا تؤمن بالمعايير والقوانين متى قيّدت وجود المرأة وجموح ذاتها الإنسانية و انعتاقها من القوالب و الأطر و الحدود.
لقد آمن غسان كنفاني بغادة السمّان ثم أحبها،والحب بعد الإيمان هو الذي يحوّل حكايات الحب إلى قيمة مستديمة «غادة أعرف أن الكثيرين كتبوا لك،..فحين أمسك هذه الورقة لأكتب كنت أعرف أن شيئا واحدا فقط أن أقوله وأنا أثق في صدقه..إنني أحبك..،وبأن حبك يستحق أن يعيش الإنسان له..،وكنت أعرف في أعماقي أنني لا استحقك ليس لأنني لا أستطيع أن أعطيك حبات عيني ولكن لأنني لن أستطيع الاحتفاظ بك إلى الأبد.»-من رسائل غسان كنفاني إلى غادة السمان-
من يقرأ رسائل غسان كنغاني إلى غادة السمان في الكتاب الذي نُشر و قدّمت له غادة السمّان بنفسها،لا بدّ أن يسأل نفسه لماذا نشرت غادة السمّان رسائل غسان،وخاصة وأن هناك رسائل ذات خصوصية وجدانية شفافة جدا، وهناك رسائل يعاتب فيها غسان غادة لتجاهل الرد عليه مما يجعلها مصدر قوة و هو مصدر ضعف،ورسائل شغف عالية الاحتياج، كما فيها رسائل لغسان وهو في حالات من الإنكسار و الألم.
ولذا فالأمر يتجاوز تخليد ذكرى ذاكرة الرسالة إلى المخفي بين سطور الغاية من هذا النشر و التي أقصد الغاية أقرب إلى منطق «غرام و انتقام».
لقد أرادت غادة السمّان من نشر حب غسان كنفاني -كعادتها-أن تُعلن تمردها على المرأة الشرقية داخلها باعتبار أن للمرأة حق الإعلان عن الحب مثلها مثل الرجل.
لم يكن غسان كنفاني مجرد رجل عادي فهو أيقونة القضية الفلسطينية وروائي و كاتب تهتز له الكلمات هذه الهائلة من الضوء و المجد التي تحيط به تجعل أي امرأة يحبها مصدر اشعاع فما بالنا لو كانت هذه المرأة هي امرأة فريدة الطراز في جيلها فحبه لها يزيد تلك الفرادة و يؤكدها ،فكان نشر تلك الرسائل كما قالت: «أعتقد أن كل أنثى تزهو ولو سرا بعاطفة تدغدغ كبرياءها الأنثوي»-غادة السمان-
لقد سعت غادة السمّان المرأة المتمردة حتى في الحب أن «تُعلن حبها» في حين أن غسان سعى ليكن ذلك الحب همسا خافتا يتوارى في الظل،ولذلك استطاعت أن تقلب قانون الظل و تتصدر بطولة الضوء في حكاية حب غير مكتملة.