عبد العزيز الصقعبي
إلى:..
أخبرني.. قل كل ما لديك.. ثق أنني سأصدق كل كلمة تقولها.. تحدث ولا تتوقف، لا تعطيني أي فرصة لمقاطعتك أو التعليق على كلامك، بل تحدث وواصل حديثك مستشهدا بما تسعفك به ذاكراتك من أسماء ومقاطع شعرية ونثرية، أنا هنا جالس لأستمع، وأستمتع، أنا لن أتحدث، بل سأقول الحقيقة، وقد تصدمك، لا أعرف أن أتحدث وأنت جالس أمامي، في هذا البيت الصغير، وتحديداً هذه الغرفة التي تطل نافذتها على شارع ترابي، و بيننا طاولة عليها، كوبي قهوة، أنت أعددتها، وصوت موسيقى هادئة، تشبه ما نسمعه في بهو الفنادق، أنت اخترت تلك الموسيقى، وضعت شريط «الكاسيت» في جهاز التسجيل، بهدوء، قبل أن تجلس، لنبدأ حديثنا عن..، عن ماذا، لا كلام لدي أقوله لك، وأنت - وأنا واثق من كلامي - لديك ما يملأ كل الأوقات من كلام.
أين أنت.. قبل قليل كنتَ هنا جالسا على مقعد مريح.. تحتسي القهوة وتستمع لتلك الموسيقى الهادئة، التزمتُ الصمت، في انتظار سماع صوتك، بدأتَ تترنم بمقطع من أغنية، هذه الأغنية أعرفها، « أنا لي قصة أسمها الحب اللي ولى.. ولى وراح»، لم تكمل، بل بدأ صوتك يتلاشى، حتى صورتك، وأنت كائن حي، كأنني أشاهد شاشة تلفزيون وليس رجلاً أجلس معه في غرفة صغيرة، ليس هنالك مشكلة أن يخبو صوتك، ولكن أن يعم جسدك البياض ليختفي تدريجياً أمامي، هذا لم أستوعبه وقتها، أمسح نظارتي بمنديل، أتأكد من سلامة نظري، ولكن، أين أنت؟، لقد اختفيت، في الوقت الذي تحولت فيه الموسيقى التي كنا نسمعها والتي أنت أخترتها إلى مقطع لطلال وهو يغني « صديق الليل.. لو تندم على جرح تركته لي.. لنسي قلبك المسكين حبيباً جرّحك قبلي»، انتهت الأغنية ، وبقيت وحيداً، هدوء وصمت، أنت لم تغادر الغرفة، ولكن اختفيت، أنا متأكد من ذلك، لأن فنجان القهوة بقي كما هو منذ أن وضعته على الطاولة، أنا في بيتك، وهذه غرفتك، أرفع رأسي قليلا وأنظر حولي، المكان تغير تماماً، أنا وحيد في مكتبتي المنزلية الصغيرة، محاط بدواليب الكتب، وأمامي جهاز حاسب محمول، أكتب، أسمع نفس الموسيقى التي أنت اخترتها، أحمل بيدي كوب شاي، أين اختفت القهوة، وأنت كيف اختفيت، وجعلتني معلقاً بين صوت طلال و قصصاً كثيرة، ربما احداها عن «الحب اللي ولّى»، هل أنت صديق الليل، ولماذا لم تتحدث عندما طلبت منك ذلك، منذ أن اختفيت فجأة، و غادرت ذلك الزمن، ربما بقيت أنت هناك، في ذلك البيت الصغير، وتحديداً تلك الغرفة التي لها نافذة تطل على شارع ترابي، صدقني تمنيت أن يتوقف الزمن عند تلك اللحظة عندما بدأت تترنم بمقطع الأغنية التي أعرفها، لنستمتع بشرب فنجان القهوة التي تتقن صنعها، ونستمع إلى موسيقى حالمة تذكرنا ببهو الفنادق عندما نسافر، قد نجد أنفسنا في أمكنة أخرى نحلم أن نسافر لها، ولكن الزمن لم يتوقف بالذات في تلك اللحظة التي بدأت تترنم بها بتلك الأغنية، بل كأنه بدأ يدور بسرعة شديدة، كإعصار، انتشلك قبلي من المقعد الذي ترتاح بالجلوس عليه، وجعلني أبتعد كثيراً عنك، لأجد نفسي وحيداً في غرفة كئيبة بها كتب وحاسب آلي، وأفتقد كلمات كان من المفترض أن أحصل عليها منك، لأنك تمتلكها.
استمعت أكثر من مرة للموسيقى التي اخترتها، وترنمت بمقاطع كنت تحبها لطلال، ولكن صوتي لا يشبه صوتك، و لن ينبع من الأرض بنقاء، «صوتي مقلوع الأظافر» وأعتذر للشاعر التونسي حميدة الصولي، الذي استعرت عنوان ديوانه، ولكن هذه الحقيقة، أشعر أن كل الكلمات المهمة احتفظت أنت بها، ولم تجعلني أحملها معي عندما ابتعدت عنك، هل كلماتك أسرار، وبمجرد أن تفكر بالبوح بها تختفي، وأنت تريدني أن أبقى، ولو بدون كلام يُسمع، شاشة الحاسب البيضاء أمامي في مكتبتي المنزلية التعيسة تحفزني أن أبحث عنك وأسلب كل كلماتك، ولأختفي بعد ذلك.. لا يهم.. المهم أن تتحدث.. وأن أكتب.. هل هي قصتك.. قصة الحب.. يا صديق الليل.