د. إبراهيم بن محمد الشتوي
على غرار ما روي عن الفراء أنه قال: أموت وفي نفسي شيء من «حتى» أو على طريقة الفرزدق الذي يقول: قد علم الناس أني أفحل الشعراء، وربما أتت علي الساعة وقلع ضرس من أضراسي أهون علي من قول بيت. أقول أنا: أموت وفي نفسي شيء من الكتابة، فعلى الرغم أنني أعالج الكتابة منذ زمن ليس بالقصير، إلا إنني لا زلت أجد مشاكل في الكتابة والتعبير عن الفكرة، إذ إن الذي يعالج الفكرة تتنازعه عوامل كثيرة يرغب في أن تكون متوافرة في كتابته، فالصحة اللغوية ليست هي المطلب الوحيد وإنما هناك مطالب أخرى.
كنت قد تحدثت في مقالتي (العودة إلى أبي عثمان) عن أن الوضوح هو عماد رؤية أبي عثمان في البيان. والوضوح المقصود هنا الذي يصحبه قدر من جمال التعبير، بمعنى يحتوي على قدر من التناسق اللغوي، والضبط التركيبي الذي يتجنب معه الكاتب التكرار الممل، المؤدي إلى ضعف التركيب، فكثيراً ما يعاني الكاتب من تكرار الصيغ الأسلوبية، فيسعى إلى بدائل لها حتى يخرج من مشكلة التكرار الممل، لكنه لا يلبث أن يتبين له أن هذه الصيغة البديلة في الحقيقة لا تقدم المعنى الذي تقدمه الصيغة الأولى، إذ إن المعنى الذي يريد أن يقدمه هو ما تقدمه الصيغة الأولى، بينما تقدم الصيغة الثانية معنى إضافي.
وهي مشكلة من وجهين: الأولى، أن معنى الصيغة الثانية يختلف عن الأولى، والثانية أن الكاتب لا ينبغي له أن يتجاهل هذا الفرق الدقيق بين الصيغ المختلفة، وإلا فإنه لن يتمكن من مهارة الكتابة على أحسن مستوى.
ويمكن أن أضرب على ذلك مثلاً بالفرق بين استعمال الصفة بالاسم الموصول أو بالجملة الاسمية، والذي يستعمله كثير من الكتاب، لكن المشكلة هي أن الجملة الاسمية تفيد الحال إذا كان ما قبلها معرفة، وتفيد القطع إذا كان ما قبلها نكرة، وذلك أن دلالة القطع الذي تفيده من أصل الجملة، فالواو التي بنيت عليها الجملة هي واو الاستئناف، والاستئناف يفيد القطع، وهذا ما يخالف دلالة الموصول الذي لا يدل إلا على الصفة.
وهذا الحديث عن التكرار، والبعد عن الضعف والوضوح أيضاً يوصلنا إلى مشكلة أخرى من مشاكل الكتابة، وهي العناية بالمحسنات البديعية، والتأنق بالعبارة، والتكلف باختيار الألفاظ الغريبة التي لا يبدو معناها أحياناً بسهولة أو الألفاظ ذات الارتباط الثقافي، بحيث تدل على محمولات لغوية مختلفة.
وهي تبدو للوهلة الأولى جيدة لكنها تؤدي إلى إثقال النص بهذه المحولات المختلفة والمرجعيات المتنوعة، فلا تظهر فكرة الكاتب، وما يريد أن يقول على وجه التحديد، وتتداخل مع المحمولات الأخرى التي تبثها الكلمات؛ هذا إذا كانت هذه الألفاظ مقصورة لذاتها، بمعنى أن الكاتب يقصد توظيفها في كتابته، يتسول بها إلى قول شيء ما، أما إذا لم يكن كذلك، فهذه المشكلة الأخرى التي تجعل حديثه ذاك ضرباً من العبث اللغوي الذي لا يخرج عن الشقشقة التي لا معنى لها، لا ترقى حتى إلى سجع الكهان، وذلك أن سجع الكهان يقصد منه تحقيق هدف معين، ويقوم بتحقيقه بينما لا يقصد من هذه الشقشقة إلا الإغراب بالأسلوب وإظهار البراعة باللغة وليس غير ذلك ما يجعل المتلقي يشعر أن هذا القول عبث لا طائل من ورائه.
ويتصل بهذه القضية أيضاً ما يقابلها من ظاهرة، وهي «الغموض»، وذلك أن العبارات أحياناً لا تفصح عن معناها بوجه محدد، أو تتداخل المعاني فيها حتى يجد الكاتب نفسه في مواجهة سؤال القارئ عن المعنى أو صحة التركيب ودلالته على المراد، ما يجعله يعيد النظر في الصياغة عله أن يتخلص مما يحس في التركيب من غبش في المعنى.
والمشكلة أنه حين يعيد النظر في الصياغة، ويقوم بإعادتها يشعر بأن التركيب الجديد مع وضوحه لا يتفق مع ما يدور في ذهنه أو يريد أن يقول سواء بسبب الألفاظ المستعملة أو طريقة التعبير، وهو ما يجعله يتردد في جدوى إعاد الصياغة أو ما يسمى ب»التحرير الأسلوبي»، ويعتمد على طريقة «الموقف الأول» مما يكتب، أو الطريقة التي ظهرت فيه الفكرة لغوياً أياً كانت هذه الطريقة ما دامها هي الصورة التي بدت فيها الفكرة واضحة بالنسبة له عند الكتابة الأولى بوصفها الحكم على سلامة الصياغة، وقدرة الجملة على الإفصاح عن المعنى.
خاصة أنه في أحيان كثيرة تؤدي الصياغة المتكررة لا إلى تغيير المعنى وإنما إلى تبسيط الفكرة حتى تبدو الكتابة كأنها قد وجهت إلى جمهور من المبتدئين سواء في الفن الذي تنتمي إليه الكتابة أو في المعرفة بوجه عام.