في حدود عام 1986م تقريبًا، استرعى انتباهي وأنا أتصفح مجلة «اليقظة» الكويتية في البقالة القريبة من البيت، سلسلة حلقات مشوقة بعنوان «عشت مع هؤلاء الأعلام» لكاتب مجهول بالنسبة لي آنذاك، اسمه عبدالله يوركي حلاق، فصرت أشتري المجلة أسبوعيًا من أجل قراءة هذه الحلقات الجميلة التي جُمعت بعد ذلك في كتاب صدر عام 1988م، وقدمته مجلة «الضاد» - يومئذ- هدية إلى قرائها في الوطن العربي وفي المهاجر الأمريكية. والنسخة التي لدي عليها إهداء بخط المؤلف إلى أحد أصدقائه مما زاد من قيمة الكتاب وأهميته؛ إذ تحدث المؤلف عن طائفة من الأدباء والشعراء - باستثناء المطربة أم كلثوم- ممن التقاهم وخالطهم، واتصلت أسبابه بأسبابهم، ومن تلك الأسماء: ميخائيل نعيمة، ومي زيادة، والشاعر القروي، وبشارة الخوري، وكرم ملحم كرم، وبدوي الجبل، وأحمد حسن الزيات، والبدوي الملثم، وشبلي الملاط، وأحمد رامي، وعلي محمود طه.
فجاء الكتاب حافلاً بالذكريات الماتعة والمعلومات المهمة عن هؤلاء الأعلام الكبار دون توسع، وهو جهد مشكور وإن لم ينل من الشهرة وذيوع الصيت ما ناله كتاب «المعاصرون» للأستاذ محمد كرد علي الذي صدر ضمن مطبوعات مجمع اللغة العربية في دمشق، ولاقى قبولاً طيبًا من الباحثين والمهتمين.
وقد سبق للأستاذ عبدالله أن أصدر كتابًا بعنوان «من أعلام العرب في القومية والأدب» عام 1976م أهدته مجلة «الكلمة» - التي كان يرأس تحريرها- إلى قرائها، وفي هذا الكتاب القيم تحدث عن بعض الشخصيات الأدبية والسياسية التي عرفها عن قرب، أو تواصل معها من خلال الرسائل الخاصة، وكان لها مآثر خالدة مثل: عبدالرحمن الكواكبي، وقسطاكي الحمصي، وخليل مطران، وإيليا أبو ماضي، وإلياس فرحات، وأمين الريحاني، وعيسى إسكندر المعلوف، وجورج صيدح، وسامي الكيالي، وعادل الغضبان، وفارس الخوري، وعمر أبو ريشة، وسامي الدهان وغيرهم.
وقد صدر للأستاذ عبدالله حلاق أربعة دواوين طبعت في حياته، وهي حسب تاريخ صدورها: خيوط الغمام، وحصاد الذكريات، وعصير الحرمان، وأسديات، والديوان الأول - وهو باكورة دواوينه- صدر عام 1942م، وطبع مرتين بالألوان في تلك السنة ونفدت جميع نسخه، وقد استقبله الوسط الثقافي آنذاك استقبالاً مشجعًا، وكتبت عنه بعض الصحف العديد من المقالات والدراسات، وحيّاه الشاعر خليل مطران بأبيات لطيفة منها:
بديباجة من «خيوط الغمام»
تخللها كل وشي عجب
جلا شعرك العربي الأنيق
طرائف زادت ثراء الأدب
وما برح الشعر في كل عصر
له كوكب يجتلى في حلب
وقد بحثت طويلاً عن هذا الديوان النادر في بعض المكتبات التجارية ولكن بلا طائل، ولم أجده أيضًا في مكتبة الملك عبدالعزيز العامة، فاضطررت للبحث عنه في مركز سعود البابطين الخيري للتراث والثقافة، ووجدته أخيرًا بعد طول عناء، وهو من ضمن كتب مكتبة حلاق التي اشتراها الأستاذ عبداللطيف البابطين من الورثة بعد وفاة الشاعر بمدة، وهي عامرة بنفائس الكتب ونوادرها، ومجلدة تجليدًا جميلاً، وكان الأستاذ حلاق يعتز بمكتبته الخاصة أيما اعتزاز.
أما بقية دواوين الشاعر الأخرى فقد تيسر لي الحصول عليها، ومن أهمها ديوان «حصاد الذكريات» - الصادر عام 1966م- الذي طبع على ورق صقيل، وكتب مقدمته الشاعر والباحث الأستاذ محمد عبدالغني حسن، وهي مقدمة طويلة تقع في 16 صفحة.
ويتجلى حب الأستاذ حلاق للشعر بأن أفسح له مساحة كبيرة في مجلته «الضاد» ووضع القصائد داخل إطارات ملونة وأنيقة، مع كتابة مقدمة موجزة لكل قصيدة والتعريف بالشاعر، فأصبحت مجلته مرجعًا مهمًا لكل من كتب عن شعراء المهجر أو أدب المهجر، وقد أصدرت عددًا خاصًا عن الشاعر النابغة فوزي المعلوف عام 1935م، وذلك بمناسبة مرور 5 سنوات على وفاة صاحب ملحمة «على بساط الريح».
وكانت تربطه صداقة قديمة بالشاعر عمر أبو ريشة الذي كتب عنه في أكثر من مناسبة، وأصدرت مجلة «الضاد» عددًا خاصًا عنه صدر في عام 1991م.
لقد عاش الأستاذ عبدالله طيلة حياته عاشقًا للغة العربية ومنافحًا عنها بقلمه ولسانه في المحافل والمؤتمرات، وأطلق على مجلته العريقة اسم «الضاد» اعتزازًا باللغة العربية وتقديرًا لمكانتها في نفسه، وقرأ منذ صباه القرآن الكريم وتأثر به، وهو مدين له بما اكتسبه من فصاحة وبيان، ومن أسلوب جميل هو (السهل الممتنع).
وفي رأيه أن القرآن الكريم ينبوع لا ينضب للبلاغة، وهو يجل الرسول صلى الله عليه وسلم - وهو المسيحي - فكتب قصيدة رائعة يقول في بعض أبياتها:
قبس من الصحراء شعشع نوره
فجلا ظلام الجهل عن دنيانا
ومشى وفي أردانه عبق الهدى
وأريج فضل عطر الأكوانا
إني مسيحي أُجل محمدًا
وأراه في سفر العلى عنوانا
وأطأطئ الرأس الرفيع لذكر من
صاغ الحديث وعلم القرآنا
ولقد ظل وفيا لمسقط رأسه حلب الشهباء التي كتب عن أعلامها ورجالاتها ومطابعها وصحافتها، ولم يزل يحن إليها كثيرًا في حله وترحاله، وها هو في مغتربه في كندا عام 1982م يدفعه الحنين والشوق إلى حلب، وإلى أرض الوطن الغالي فيكتب هذه القصيدة التي نشرت في ديوانه «عصير الحرمان» ومنها هذه الأبيات:
إني حننت إلى الشهباء يا كندا
متى أراها؟ فمني الصبر قد نفدا
ما كنت أحسب أن البعد عن وطني
وعن صحابي يذيب الروح والجسدا
أبيت في المهجر النائي على أمل
أني سأشرب من ماء الفرات غدا
وقد بلغ من حبه لحلب وهيامه بها أنه خصها بكتابين هما: حلبيات، والحلبيون في المهجر، والكتاب الثاني يرصد فيه هجرة الحلبيين إلى القارة الأمريكية، وإلى بقية دول العالم؛ للبحث عن فرص عمل والعيش بكرامة، وقليل من المهاجرين الأوائل من نجح في عمله المضني أو في تجارته الكاسدة. ويصف المؤلف ما يلاقونه من ضيق وشقاء وأهوال في بلاد نائية يجهلون لغة أهلها، فالمهن شاقة للغاية، والأجور كانت ضئيلة.
ولا ينسى المؤلف أن يتحدث عن الأدب المهجري وأبرز أعلامه، ونشأة الصحافة المهجرية ومراحل تطورها، والإشارة إلى المنتديات الثقافية، والراوبط الأدبية التي كانت تجمعهم -آنذاك- في تلك الديار السحيقة.
وربما تكون الكويت الدولة الخليجية التي زارها كثيرًا الشاعر الأستاذ عبدالله حلاق، فبادلته حبًا بحب، وقد ذكر في أحد اللقاءات الصحفية القديمة معه أنه زارها 12 مرة، وفي كل زيارة كان موضع الحفاوة والتكريم من أدباء الكويت ومن الصحافة الكويتية، وقد أفردت مجلة «الضاد» عددًا خاصًا عن الكويت - عام 1977م-، وحرر معظم مواده صاحب الضاد ورئيس تحريرها.
هذه جولة سريعة على بعض مؤلفات الشاعر الأستاذ عبدالله يوركي حلاق، التي أحتفظ بمعظمها في مكتبتي الخاصة، عدا مئات الأعداد النادرة من مجلته «الضاد».
وفي تقديري إن مؤلفاته تستحق دراسات موسعة تبرز جهوده اللغوية والصحفية، وما قدمه من دواوين شعرية ودراسات قيمة رفد بها المكتبة العربية، فاستحق بذلك أن يكون من أعلام العرب في القومية والأدب.
** **
- سعد بن عايض العتيبي