الجزيرة - كتب:
يمثل القانون الدولي ركيزة ثابتة في العلاقات بين الدول، حيث يشكل المحور الرئيس في ضبط العلاقات فيما بينها، وفي تقنين الخلافات التي قد تحدث لأي سبب كان، ولما لهذا الموضوع من قيمة كبيرة ومؤثرة، فقد ألقت الدراسة: «المسؤولية الدولية عن الأضرار وسائلها وآثارها»، التي بحث فيها الدكتور: خالد بن محمد اليوسف، أستاذ القانون الدولي بالمعهد العالي للقضاء، أبعاد هذه القضايا، وأصولها وأسسها من الجوانب الشرعية والقانونية، وهذا هو ما يميز هذه الدراسة عن غيرها.
يقول د. اليوسف في بيان ذلك: «شرع الله لنا هذا الدين، وجعله كاملاً تامًا صالحًا لكل زمان ومكان، وهذا من فضل الله تعالى علينا ورحمته بنا، وهذا الكمال وتلك الصلاحية جاءت بعلم الله - عز وجل - لما يحتاجه العباد في أمور دينهم ودنياهم إلى أن تقوم الساعة.
من هنا: فإن النظر إلى ما يجد على المرء في نطاقه الشخصي، أو يجد عليه في النطاق الجماعي في أي أمر من الأمور العامة أو الخاصة في دينه أو دنياه إنما مرده في ذلك إلى التطبيق الكامل لأحكام الشريعة الإسلامية بقواعدها الكلية ومقاصدها العامة.
لذا، فإن الناظر اليوم إلى مسائل كثيرة في الدين والدنيا والحياة يجد الاستيعاب الكامل لمثل تلك المسائل الحادثة في الشريعة الإسلامية، سواء فيما يتعلق بإلحاقها بالأصول أو الفروع أو ما يتحقق به مقصد من مقاصد الدين وقواعده الكلية، والأمثلة على ذلك كثيرة، وذلك بجهد واضح من أئمة الدين وعلماء الأمة المخلصين، إلا أنه يظل مع التقدم العلمي والتطور المعرفي في شتى نواحي الحياة ما يجعل الحاجة ماسة إلى الفهم الصحيح لكثير من المسائل المستجدة، والتي لم يتم التطرق إليها من الناحية الشرعية، مما يجعلها بحاجة إلى التأصيل الشرعي، وضبط ماهيتها، وتقعيد أصولها، وأن تفرض مسائلها بكثير من الدراسة والشرح والتحليل.
والمسائل المستجدة الحادثة كثيرة ومتنوعة، سواء فيما يتعلق بعلاقة الفرد مع ربه، أو علاقته بنفسه، أو علاقته مع الآخرين من بني جنسه، وما يترتب على تلك العلاقة من آثار، وهذا كله يتسم بشيء من الوضوح عند البحث أو الاستقصاء أو التخريج والاستنباط، إلا أنه إذا كانت تلك العلاقة تقوم بين أطراف ليس للفرد فيها اعتبار بصفته فردًا طبيعيًا، وإنما تقوم هذه العلاقة بين طرفين يتمتعان بشخصية دولية عامة، جاءت المحاولات البشرية في سبيل تنظيمها والاتفاق على قواعدها وفق قانون دولي عام، فهذا الاصطلاح الحادث يحتاج الأمر فيه إلى فهمه وضبطه وتخريج مسائله، ومقارنة ذلك بأحكام الشريعة الإسلامية، ولكن كان هناك جهد بذل في بعض الموضوعات المتعلقة بأحكام ذلك القانون ومحاولة تأصيلها تأصيلًا شرعيًا إلا أن هناك الكثير - أيضاً - من الموضوعات التي لم يتناولها الباحثون من الناحية الفقهية الشرعية، وإنما تم نقلها كما هي مع اجتهادات لبعض شراح النظام، اهتمت بالجوانب التفسيرية دون الجوانب الشرعية، ومن أبرز هذه الموضوعات تلك التي تتعلق بما يعرف بالمسؤولية الدولية والآثار المترتبة عليها في القانون الدولي العام.
وتكمن أهمية الموضوع لما يترتب عليه من آثار في العلاقات الدولية في عالم اليوم، لا يقتصر أثرها على آحاد الناس، بل يتعداهم إلى مجموعهم، مما يستلزم معه قيام الدارسين في مجال الأنظمة إلى السعي في بيان حدود هذه المسؤولية ووسائل المطالبة بها وبيان ما تنتجه من آثار، وتأصيل ذلك تأصيلًا شرعيًا، وتخريج مسائله، وضبط أحكامه، بما يتفق مع الأحكام الشرعية، فالعالم اليوم أصبح يقوم على علاقات دولية واسعة في مجالات متعددة، نرى فيها الدولة تتصرف فيها، كما يتصرف الفرد الطبيعي - مع بعض الفروق والاختلافات - فتنشأ لها حقوق، ويترتب عليها التزامات وتطالب بالتعويض إن هي تعدت في المعاهدات والاتفاقيات المبرمة، أو تجاوزت الأعراف والمبادئ الدولية المتفق عليها، وإثبات هذا التعدي وذلك التجاوز في المجتمع الدولي وفي علاقات أطرافها دول، ليس بالأمر الهين، إذ هو مجال للتنازع، ويتطلب جهدا كبيرا، وعملا شاقا، واتباع وسائل متعددة لإثبات المسؤولية الدولية عنه، والتحقق من قيام هذه المسؤولية بحق أحد أشخاص هذا المجتمع، وقد يحدث عند عدم التثبت من هذه المسؤولية، والتحقق من قيامها أن تشعل الفتن، وتنشب الحروب، وتباح البيضة، ويعم الهرج والمرج، ويحصل القتل والخراب والدمار على مستوى الأمم والجماعات، مما يبرز الأهمية البالغة لدراسة هذه المسؤولية، ودراسة وسائل تحققها، والآثار المترتبة عند التحقق من قيامها، وتأصيل ذلك تأصيلًا شرعيًا يبين موقف الشريعة الإسلامية من كل ذلك.
والدول الإسلامية اليوم لا تعيش بمعزل عن هذا المجتمع الدولي، إذ تقوم العلاقات المتبادلة بما يحقق المصالح المشتركة بين أفراد هذا المجتمع، وهذه العلاقات من جانب الدولة الإسلامية مبناها في الأصل على الإباحة، إذ تدخل في باب المعاملات، وهذه الإباحة ليست مطلقة، بل مقيدة بالمقاصد العامة للشريعة، وبناء على ذلك فإذا رأى ولي الأمر وهو ممثل الرعية من الناحية الدولية أن يلتزم ببعض البنود أو الشروط عن طريق عقد بعض الاتفاقات أو المعاهدات الثنائية مع بعض الدول، أو عن طريق اتفاق عام بين هذه الدول، أو رأى ضرورة مراعاة الأعراف السائدة المتفقة مع الشريعة الإسلامية، فإذا رأى أن ذلك فيه صلاح لأفراد رعيته، واستقامة الأمر الدولة، وحماية لإقليمها، وذب عن حريمها، وفق ضوابط الشريعة وأحكامها، فإن تصرفه ذلك من السياسة العادلة للأمة بمجموعها، وعليه أن يفي بهذه الشروط وتلك البنود ما دامت متفقة مع الأصول الشرعية، ولا يجوز له أن يأتي بما يخالفها، وإلا تحمل المسؤولية عن ذلك.
ولعل هذا التوصيف على اختصاره يمكن أن يبين وجود مثل هذا النوع من المسؤولية في الشريعة الإسلامية، حيث نجد أن هذه الشريعة راعت المعاهدات والاتفاقيات والأعراف العامة، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - عقد صلح الحديبية بين أمة الإسلام في المدينة وأمة الكفر في مكة، كما أنه - صلى الله عليه وسلم - راعي جانب العرف المستقر بين الأمم في إرساله الرسل لرؤساء تلك الأمم، واستقباله لهم بما في ذلك عدم جواز قتل هؤلاء الرسل أو التعرض لهم، وفي اتخاذه الخاتم في الكتب كون ملوك ورؤساء تلك الأمم لا يقرؤون كتابًا لم يختم. وكذلك أصحابه - رضوان الله عليهم - من بعده عقدوا المعاهدات والمواثيق، وراعوا العلاقات الناشئة بناء عليها. وكذلك عالج فقهاء الشريعة الإسلامية بعض أحكام ما يعرف بالمسؤولية الدولية، وذلك بما قرروه عند الكلام عن أحكام الجهاد أو عن أحكام أهل الذمة أو أحكام الأمان أو بما يتعلق ببعض الصور والمسائل المنشورة في أبواب الفقه بشكل عام.
كما أن الشريعة الإسلامية جاءت بقواعد عامة فيما يتعلق بحدود المسؤولية في الفقه الإسلامي: كقاعدة: (الضرر يزال)، وقاعدة: (لا ضرر ولا ضرار)، وقاعدة: (الضرر يدفع بقدر الإمكان).
وعلى هذا فإن أهمية هذا الموضوع تظهر فيما تحتاجه الدولة الإسلامية اليوم في علاقاتها الدولية من بيان معنى المسؤولية الدولية من الناحية الشرعية، وضبط حدودها، واستظهار الأحكام والمسائل المتعلقة بها وبيان الكيفية التي يمكن بها إثبات تلك المسؤولية على دولة بعينها، وتحقيق القول في الوسائل التي يمكن للدولة الإسلامية اتباعها للتحقق من قيام هذه المسؤولية، وما هي المحاذير الشرعية التي يجب على الدولة الإسلامية أن تتجنبها ؟ ثم إن من هذه الوسائل ما يتعلق بالتحكيم أو القضاء الدوليين، فما موقف الدولة المسلمة من هاتين الوسيلتين ؟ وما مدى حجية الأحكام الصادرة عن طريقهما ؟ وهل يلزم الدولة الإسلامية تنفيذها ؟ وهل يمكن للدولة الإسلامية أن تتكيف مع الأوضاع الراهنة في حدود ما لا يخالف أحكام الشريعة الإسلامية ؟ ثم ما مدى جواز رفع الدعوى إلى محاكم دولية بين الدول الإسلامية أو بينها وبين الدول الأخرى أو التراضي بقبول هيئة تحكيمية مقترحة ؟ وفي حال رفع دعاوى المسؤولية الدولية على الدولة الإسلامية فما مدى تأثر الدولة الإسلامية بذلك ؟ وهل يلزمها التعويض في حال الحكم به، وما مقداره ؟ وما الرأي الفقهي في جواز القبول والتنفيذ؟ وما هو الضرر الذي يكون به التعويض؟ وهل الدول تلتزم بذلك؟ وهل يجوز تعويض الكفار عن أخطاء الدولة الإسلامية؟ ما الأصل في ذلك؟ ما حدوده؟ ما ضوابطه؟ ما هي صوره؟. جميع هذه التساؤلات هي محل الدراسة، وتظهر بشكل واضح أهمية دراسة وبحث الموضوع، وأهمية الإجابة عن مثل هذه التساؤلات مع الاستدلال على ذلك من النصوص الشرعية أو من السيرة النبوية أو من خلال الاستشهاد بأقوال علماء الشريعة ومجتهديها فيما يخص الأحكام المتعلقة بمسائل هذه المسؤولية.
وتتألف هذه الدراسة من مقدمة وتمهيد وثلاثة أبواب وخاتمة:
التمهيد: التعريف بمصطلحات البحث ، ويشتمل على ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: تعريف المسؤولية الدولية وتأصيلها وأسسها في الشريعة الإسلامية،
المبحث الثاني: تأصيل المسؤولية الدولية في الأنظمة الدولية المعاصرة،
المبحث الثالث: مفهوم الضرر في مجال المسؤولية الدولية وأنواعه وشروطه،
الباب الأول: وسائل تحقق المسؤولية الدولية، ويشتمل على ثلاثة فصول:
الفصل الأول: الوسائل السياسية، ويشتمل على خمسة مباحث:
المبحث الأول: المفاوضة بين أطراف النزاع.
المبحث الثاني: الاحتجاج الرسمي.
المبحث الثالث: المساعي الحميدة.
المبحث الرابع: الوساطة الدولية.
المبحث الخامس: التحقيق الدولي.
الفصل الثاني: الوسائل القضائية ( دعوى المسؤولية الدولية )، ويشتمل على ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: تعريف دعوى المسؤولية الدولية في الفقه والقانون.
المبحث الثاني: شروط دعوى المسؤولية الدولية في الفقه والقانون.
المبحث الثالث: رفع الدعوى أمام المحاكم القضائية الدولية.
الفصل الثالث: وسائل التحكيم الدولي، ويشتمل على أربعة مباحث:
المبحث الأول: تعريف التحكيم الدولي في الفقه والقانون.
المبحث الثاني: التحكيم بواسطة المنظمات.
المبحث الثالث: التحكيم بواسطة هيئات مختارة.
المبحث الرابع: التسوية التحكيمية بين طرفي النزاع.
الباب الثاني: آثار المسؤولية الدولية، ويشتمل على ثلاثة فصول:
الفصل الأول: التعويض باعتباره الأثر للمسؤولية الدولية، ويشتمل على أربعة مباحث:
المبحث الأول: تكييف التعويض.
المبحث الثاني: التعويض عن الضرر المباشرة في الفقه والقانون.
المبحث الثالث: التعويض عن الضرر غير المباشر في الفقه والقانون.
المبحث الرابع: التعويض عن الضرر المعنوي في الفقه والقانون، ويشتمل على مطلبين:
المطلب الأول: التعويض عن الضرر المعنوي في الفقه.
المطلب الثاني: التعويض عن الضرر المعنوي في القانون.
الفصل الثاني: محل التعويض وصوره، ويشتمل على ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: محل التعويض.
المبحث الثاني: صور التعويض.
المبحث الثالث: تقدير التعويض المالي في الفقه والقانون.
الفصل الثالث: صور أخرى من آثار المسؤولية الدولية، ويشتمل على مبحثين:
المبحث الأول: الترضية السياسية في الفقه والقانون.
المبحث الثاني: إعادة الحال إلى ما كانت عليه في الفقه والقانون.
الباب الثالث: تطبيقات دراسية في مجال المسؤولية الدولية، ويشتمل على أربعة فصول:
الفصل الأول: نماذج لبعض قضايا التعويض الدولية.
الفصل الثاني: نماذج لبعض قضايا التعويض الناشئة عن التأميم.
الفصل الثالث: دراسة الحالة التحكيمية بين اليمن واريتريا.
الفصل الرابع: دراسة التسوية الحدودية الودية بين السعودية واليمن كحالة معاصرة ورائدة في العلاقات الإسلامية.
الخاتمة:
وتشتمل على أهم نتائج البحث والتوصيات.
الفهارس:
وتكشف هذه الدراسة أهمية القانون الدولي والبحث فيه وإلقاء الضوء على ما يتضمنه من تفاصيل من شأنها بيان الكثير من المسائل المهمة وخصوصا في الجانب السياسي، وهذا من أبرز اهتمامات معهد الدراسات الدبلوماسية في وزارة الخارجية.
وقد أكد د. خالد اليوسف، أنه ستشتمل الدراسة في طبعتها القادمة على إضافات مهمة تتصدرها ما يتصل بمناقشة بعض القضايا الدولية والإقليمية في الشرق الأوسط، وموقف القانون الدولي منها، وأن الدول ذات السيادة المستقلة وذات الدساتير المختلفة أيضاً تتكيف مع القانون الدولي الذي يحفظ علاقاتها مع الدول الأخرى وحقوقها كذلك، إلى جانب إلقاء الضوء على جوانب مهمة من سياسة المملكة الخارجية وكيف أن المملكة تحرص على صيانة العهود والمواثيق الدولية وصيانتها بما يتلاءم مع دستور المملكة وهو القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، وكيف أصبحت تجربة المملكة أنموذجا متفردًا ومتميزًا في هذا الجانب.