د.محمد بن عبدالرحمن البشر
أذكر أن هناك مقولة تتحدث عن مبلغ بضعة سنتات مفقودة، صار لها شأن بين ثنايا الملفات الكثيرة التي تتحدث عن مآل ومصير تلك السنتات، وقد تكونت لأجل تلك السنتات، الكثير من اللجان وازداد عددها وتكلفتها، وما يتطلب ذلك من سفر وانتدابات عديدة من جهة إلى أخرى، وقد انتهى الأمر بأن أصبحت تلك السنتات المفقودة، بعد أن بلغت تكاليف الوصول إلى تلك النتيجة بالمئات، ولو وضع أحدهم سنتات قليلة مكان تلك المفقودة لانتهى الأمر بأقل التكاليف.
البعض منا قد سمع عن تلك المسرحية التي تطلبت توفير إوزة، فما كان من أحد القائمين على المسرحية إلا أن قام باستئجار إوزة من إحدى السيدات بمبلغ خمسة وعشرين قرشاً، وكل ليلة يتم إحضار تلك الإوزة لتقوم بدورها المتميز في تلك المسرحية الجميلة، وبعد أيام اقترح أحد الإداريين وهو محق، أن يتم شراء الإوزة بدلاً من استئجارها، لأن الاستئجار سوف يكلف نحو مائة قرش، بينما لو تم شراء الإوزة واستخدامها طوال الفترة، فإن الأمر لا يتجاوز تكلفته أكثر من خمسة جنيهات، ولهذا فإن من الأفضل حسب رأيه أن يتم الشراء بدلاً من الاستئجار، وتم الأمر، وقام بشراء الإوزة واستخدامها في المسرحية، وبعد الانتهاء من المسرحية كان لا بد من إحضار فاتورة وإدخال الإوزة إلى المخزن لأنها أصبحت ملكاً للدولة، ولكن وجود الإوزة في المخزن يتطلب شراء غذاء للإوزة، وكذلك توفير الماء لها، وقد تم شراء الغذاء بانتظام بموجب فواتير، لكن يبدو أنه لم يتم توفير الماء، فماتت الإوزة، ولهذا لا بد من التحقيق مع من تسبب في موت الإوزة التي تعتبر من المال العام، وما تم فعله إهدار لذلك المال، ولو بقيت الحال على الاستئجار لكان أجدى وأنفع، لكنه الروتين القاتل الذي لا يسمح بأن تعمل عملاً جيداً، ولهذا فإن الكثير من الطاقات والأموال تذهب سدى في سبيل ذلك الروتين القاتل، أما واقع الحال في هذه الأيام في جميع دول العالم فإنه أفضل بكثير، لأن التقنية الحديثة قد ساعدت كثيراً في الخلاص من سلاسل الروتين القاتل، وبنت طرقاً أسرع وأجدى وأنفع وأضبط وأكثر شفافية من ذلك الذي كان سائداً فيما سبق، وهي بهذا قد أحدثت -وما زالت- عملاً يتحسن من فترة إلى أخرى.
هناك روتين خفي يحمله الإنسان بين جنبيه، ولا يكاد يتخلص منه طبقاً لطبيعته الذاتية، وهو روتين نفسي عميق من خلاله يلزم الإنسان نفسه بأشياء قد لا تكون صحيحة، ويعيدها بشكل روتيني كل فترة، لاسيما عند وقوقع النوائب والمصائب -حمانا الله وإياكم-، وهذا التكرار يعمق الجرح، مع أنه لا يستطيع أن يحل المشكلة التي بسببها أصبح يفكر ذلك التفكير العميق والمتكرر، وقد يقوده إلى الاكتئاب والحزن الشديد الذي يخرجه من طور الحياة الطبيعية.
يقول المتنبي مخاطباً سيف الدولة:
وَأَسرَعُ مَفعولٍ فَعَلتَ تَغَيُّراً
تَكَلُّفُ شَيءٍ في طِباعِكَ ضِدُّهُ
وهو في الواقع يقول حقاً، فتكلف شيء ضد الطباع صعب على النفس وسريع الزوال يقول الشاعر:
وَمُكَلِّف الأَيامِ ضِدَّ طِباعِها
مُتَطَّلِب في الماءِ جَذوة نارِ
والطباع هي أصعب وأرسخ روتين يحمله الإنسان بين خافقيه ولا يستطيع التخلص منه بسهولة ويسر، وقد تقوده إلى أمور كثيرة تسارع في عنائه.
المتنبي كان في طباعه الكبر والفخر والزهو، وكان يرى نفسه فوق غيره، ولهذا فهو لا ينظر إليهم إلا باستصغار، وقد أوحى له طبعه أن الناس من حوله جميعهم يحسدونه على ما حباه الله، وعاش ذلك الروتين طول حياته، وأصبح أسيره، بل ربما أن ذلك الروتين الخفي في طباعه كان السبب في موته، حيث إن غروره منعه من أن يأخذ معه حراساً وهو ذاهب من العراق إلى شيراز، وليس معه سوى ابنه محمد وأحد عبيده، وفي حديثه الظاهر والمعبر عن طبيعته الخفية التي بناها تكراره الدائم في نفسه ورأيه في حاسديه، يقول:
سِوَى وجعِ الحُسّادِّ داوِ، فإنّهُ
إذا حلّ في قلبٍ فليس يحولُ
ولا تطمعنْ مِن حاسدٍ في مودّةٍ
وإن كنتَ تُبديها له وتُنيلُ
يَهُونُ عَلَيْنَا أَنْ تُصَابَ جُسُومُنَا
وَتَسْلَمَ أَعْراضٌ لَنَا وَعُقُولُ
عندما تعمل تجربة حقلية، سواء في المجال الزراعي، أو في الفيزياء، أو الكيمياء أو غيرها من العلوم، فإنك تعمل تلك التجارب لتصل إلى نتيجة معينه، أما استمرار تكرارها في روتين مستمر دون إدخال متغيرات جديدة، فإن ذلك العمل لن يضيف شيئاً.