مها محمد الشريف
لا يمكن اختزال الفلسفة السياسية في الأحداث من خلال معايشتها أو الأفكار التي تحيط بها، بل إنها تقوم على تأمُّل الطابع الجوهري للسياسي ذاته، فالدلائل تشير غالباً إلى أهمية اكتساب مرونة ذهنية وسلوكية تجعل الاتجاهات والسلوكيات الفردية مواكبة للتحولات الحاصلة في معظم الميادين، كما جاء به بعض الفلاسفة في مشروعهم الفلسفي وكشف كل ما يشوه ويحير ويهدم المجموعات البشرية، والنزوع إلى الاستمرار الذي يسمح برسم عدة خطوط ، منها على سبيل المثال:
أولاً: التمييز بين الخطاب الفلسفي حول السياسي والخطاب الوضعي للعلم السياسي، وثانياً: التمييز بين الظاهرة السياسية بالذات والظواهر الاجتماعية الأخرى كالظواهر الدينية والحقوقية والاقتصادية، فمن أجل ذلك، علينا معرفة أدوات التفكير الفلسفي وبعض آلياته واشتغاله وإضافات متعددة إليه مثل الرصيد المعرفي والمهاري والوجداني، عبر مقاربة المفاهيم التي تؤهل للمساهمة الفعالة.
فالواقعية السياسية إنما تقوم على معرفة قوانين طبيعة الإنسان، فهل يمكن أن ننظر إلى تنوع الأوضاع والظروف بصورة مبالغ فيها، أو النفاذ إلى أعماق المشاكل الأكثر تعقيداً، فالنظريات المجردة والآراء التقليدية تستطيع حلها بطريقة بسيطة، ولكن الغرب افتقد هذه النظريات وجعل المفاوضات حول البرنامج النووي الإيراني في فيينا، قضية العصر وأعلى قدر من التردد، مما يثير دهشة وذهول العالم، علما أن وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن وزميله وزير الدفاع لويد استن زارا المنطقة بمراحل مختلفة، وسمع المسؤولون الأميركيون لهجة خليجية شبه موحدة تكرر القلق من إبرام اتفاق مع إيران على منوال ذلك الذي أُبرم في عهد باراك أوباما والذي لم يأخذ في الاعتبار هواجس أهل المنطقة، وكذلك سمع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون (وهو جزء من «نادي الاتفاق النووي») كلاما مكثّفا ومحددا أثناء جولته الخليجية الأخيرة، وبات أكثر تمسّكاً بما كان طالب به قبل ذلك من شراكة «دول أخرى» في أي اتفاق، وكل الموقعين على اتفاق فيينا - بما في ذلك روسيا والصين - ولكن توقف الجميع عند موقف إسرائيل الرافض لفكرة التفاوض مع إيران وإبرام أي اتفاق معها، وكذلك الموقف الصيني من الغرب وتأكيد فرصته لمناهضتهم والميل مع مصالحه مع طهران.
من هنا، تكون فلسفة هذه الحالة المماهاة بين الحق والقوة، والمصلحة المتبادلة بين الأطراف المتعاقدة التي تغير سير النتائج، فكل ما شاهدناه انتقال الدبلوماسيين من فرنسا وبريطانيا وألمانيا وروسيا والصين جيئة وذهابا بين الجانبين، بسبب رفض طهران إجراء محادثات مباشرة مع واشنطن، والإيرانيون يلقون باللوم على «الأوروبيين، بأن محاولاتهم لتخريب الحوار، قبلوا منذ أيام مناقشة النصوص الإيرانية، لكنهم يحاولون الآن تلبية أطماع الولايات المتحدة». وأن «المزايدات الأوروبية مستمرة، وهذا هو سبب بطء المفاوضات، لكنها لم تتوقف».
فكلٌّ يسعى إلى تحقيق ما يراه خيرا له ولمصلحته، على حساب الآخرين وهكذا يكون خاضعاً بالضرورة للنظام الذي ينتمي إليه، وانطلاقاً من هذا التحديد المزدوج، تظل المتناقضات والمتنافرات جنبا إلى جنب، وكثيراً ما تستقر في وسط ملتبس يغلب عليه احتدام الصراع، وكل ذلك يكون من الأسباب المؤدية لاختلاف المصالح، فالساسة في الغرب يدعون إيران إلى العودة إلى طاولة المفاوضات في فيينا كما هو الحال منذ سنوات دون تقدم يذكر، والموافقة على الصفقة بشأن برنامج طهران النووي، وكل ذلك يعتبر مماطلة ومراوغة، وذلك ما يمكن استنتاجه من هذا الوضع. يبدو أن الرسالة السياسية تم ترويجها لذوق العصر، فقد دأب العالم على قراءة هذه المؤلفات القديمة كل عام ليعاد طباعتها كنسخة جديدة.
وهكذا الحال مع مجموعة «السبع الكبار» والدول الأعضاء في المجموعة تمنح إيران مزيداً من اللهو، فحينئذ يكون الاستعراض غير مقنع وانطباعاته سلبية، حتى تبيّن أن المشروع السياسي ثانوي أو عرضي وليس له ذلك العمق والغاية لكل التفاعلات التي تحتاج إلى تطبيق عملي، ولم يكن لها تأثير أو أربى نفعاً في كل المراحل والمجالات السابقة، لم نر أبداً من قبل مثل هذا التماهي والضعف من المجتمع الدولي، فكل الأعمال خالصة لم تدفع إلى سبل النجاح وتنمية الشعور بالعدل وتزكيته بجميع الأساليب المتاحة لتعزيز التوافق، فالدواعي لم تحدد موقفا حازماً إزاء الاتفاق.