اللواء الركن م. سلامة بن هذال بن سعيدان
المعروف هو فعل الخير على الوجه الذي يحصل به الثواب والأجر من الله والثناء والذكر الحسن من الناس، ويشمل ذلك المال والجاه، وكل ما ينضوي تحت مفهومهما ويحكم عليه بحكمهما من الأعمال الصالحة التي يحتاجها الناس، انطلاقاً من أن المعروف يتضمن الكثير من أعمال البر والخير التي يترتب عليها رضاء الخالق والإحسان إلى المخلوق، بوصف هذا الأمر يشكل ضرورة دينية، ومطلباً اجتماعياً وانسانياً يصعب الاستغناء عنه.
والله إذا أراد لعبده خيراً أعطاه مالاً أو جاهاً أو كليهما، بحيث يبذل منهما في مجالات الخير ما استطاع إلى ذلك سبيلا على النحو الذي يكون معه هذا المال أو الجاه بمثابة نعمة استحقها وأنفقها في مرضاة الله، متقرباً بها إليه حيث إن كسب النعمة ودفع النقمة لا يتحققان إلا بطاعة الله والتقرب إليه، والإحسان إلى خلقه.
وقد ورد ذكر المعروف والحث عليه في القرآن الكريم والسنة النبوية وعلى ألسنة الصحابة والسلف الصالح، الأمر الذي يدل دلالة واضحة على عظم شأن صنائع المعروف وفضل الذي يصطنعها، حيث إن هذه الصنائع تجمع بين طاعة الله وتقواه وبين التفضل على عباده، تقرباً إليه وطمعاً فيما عنده من الأجر والثواب، وقد قال الله سبحانه وتعالى: {لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} (114) سورة النساء، وقال تعالى: {إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ} (128) سورة النحل، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم «كل معروف صدقة» وقال: «صنائع المعروف تقي مصارع السوء، وصدقة السر تطفئ غضب الرب وصلة الرحمة تزيد في العمر».
وتأسيساً على ذلك فإن بذل المعروف وفعل الخير من أفضل ما يتصف به المرء، لأنه بقدر ما يكسب على ذلك أجراً، بقدر ما يكسب عليه شكراً، وسواء أكان المعروف بالمال أو بالجاه أو غيرهما من أعمال الخير، فإنه يشمل حسن النية وسلامة الطوية، وكل ما يتحلى به الإنسان من مكارم الأخلاق، ويصطنعه من صنائع المعروف، ويسديها إلى غيره. وهذا المعروف المبذول يبلغ غايته ويصل نهايته وتكتمل صورته عندما يتم تكريس ثقافته وتعميمها داخل المجتمع مع تطبيق ضوابطه وشروطه وآدابه بالشكل الذي يجعل المعروف يتم في إطاره المشروع بما يعود بالخير والقبول الحسن على الصانع والمصنوع فيه، وقد قال عبد الله بن عباس: إن المعروف لا يتم إلا بثلاث، ستره وتعجيله وتصغيره فإنك إذا سترته تممته، وإذا عجلته هنأته، وإذا صغرته عظمته، وقال آخر: أحي معروفك بإماتة ذكره وعظمه بتصغيرك له.
وخليق بفاعل المعروف أن يفعله طمعاً فيما عند الله من الأجر دون أن يربط بين ذلك وبين الحصول على مقابل من البشر، مؤمناً بأن معروفه يمثل نوعاً من المعاملة مع الله قبل أن يكون معاملة مع الخلق، كما يبذله لمن يستحقه في مكانه وزمانه مع التكتم عليه والابتعاد به عن المن والأذى واستصغاره مهما كبر، وقد قال الله سبحانه وتعالى: {إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ} (271) سورة البقرة، وقال جل جلاله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ} (264) سورة البقرة، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم «إن الله يحب الأبرار الأتقياء الأخفياء».
وفي السياق ذاته فإن صانع المعروف علاوة على ما ينتظره من الأجر في الآخرة، فإنه يحصل بسبب المعروف على الشكر وحسن الذكر في الدنيا بالإضافة إلى أن فعل المعروف يُمكّن فاعله من احتلال مكان السيادة ويجلب له السعادة، وقد قال المهلب: عجبت لمن يشتري المماليك بماله، ولا يشتري الأحرار بفعاله، وقال: ليس للأحرار ثمن إلا الإكرام فأكرم حراً تملكه، وقال آخر: إن لم تصد قلوب الأحرار بالبشر والبر فبأي شيء تُصيدها، وقد سُئل أحد الملوك عن أكبر فعل شيد به ملكه؟ فقال: ابتداري إلى اصطناع الرجال والإحسان إليهم، وقال علي بن أبي طالب: المعروف حصن من الحصون، وكنز من الكنوز، فلا يزهدنك فيه كفر من كفره، فقد يشكرك عليه من لم ينتفع منه بشيء، وقد يُدرك بشكر الشاكر ما أضاع الكفور الجاحد، وقال جعفر بن أبي طالب: بأهل المعروف إلى اصطناعه ما ليس للطالبين فيه؛ لأنك إذا اصطنعت معروفاً فإن لك أجره وفخره وثناءه ومجده فما بالك تطلب شكر ما أتيت إلى نفسك من غيرك.
وفي المقابل فإن الذي يُصنع فيه المعروف مطلوب منه التخلق بخلق الإسلام، وتوطين نفسه على الاقتداء بأهل الفضل، ناسباً الفضل إلى أهله، ومقدماً الدليل على الاعتراف بالجميل من خلال شكره لله الذي هو المنعم الحقيقي ثم شكره لفاعل المعروف، مدركاً فضل صاحب البر الذي تفضل عليه، وقيمة الإحسان إليه، ومتأسياً بما قاله الراضي بالله (أبو العباس): الحر عبد البر والإنسان خادم للإحسان، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم «من لا يشكر الناس لا يشكر الله» وقال: «من صنع إليه معروفاً فقال لفاعله جزاك الله خيراً فقد أبلغ في الثناء» وقد قيل: أجدر الناس بالصنيعة من إذا أعطي شكر، وإذا منع عذر، وإذا مطل صبر، وإذا قدم العهد ذكر.
ونعم الله لا تعد ولا تحصى والشكر له على نعمه يمثل أساس كل شكر لأن المنعم هو الله الذي أوجد النعمة وسخر لها من خلقه من يتولى إيصالها إلى الآخرين عن طريق بذل المعروف والإحسان من قبل المحسِن إلى المحسَن إليه طمعاً فيما عند الله وفيما يجلب له المزيد من الخير ويحجب عنه الشر وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «المعروف باب من أبواب الجنة ومن صنع معروفاً وقع عنه مفتاح الشر»، وقال: أهل المعروف في الدنيا أهل المعروف في الآخرة.
وفعل المعروف يتجاوز المصالح والمنافع الفردية وذات الطابع الجماعي إلى ما هو أبعد من ذلك حيث يكون من نتائجه حصول التكافل والتكامل داخل المجتمع وما يترتب على ذلك من الوئام والانسجام نتيجة لوجود قاسم مشترك بين الإحسان والعرفان مع تنظيم العلاقة بين الأعلى والأدنى، إذ إن الشكر يفعل مفعوله ويكشف عن مدلوله ويزيد محصوله حسب منزلة أصحابه كما ذكر ذو النون المصري في قوله: الشكر لمن فوقك بالطاعة ولنظيرك بالمكافأة، ولمن دونك بالإفضال والإحسان إليه.
وأهل المعروف يبذلونه رغبة فيما عند الله وتحقيقاً لمرضاته بصرف النظر عن المستحق له وغير المستحق مع بذله للبار والفاجر والمسلم وغير المسلم دون الانتظار إلى مقابل من البشر وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب: «يا علي أي إنسان سألك حاجة ليس هو بِأهلٍ لها، فكن أنت أهلاً لها»، وقال عمر بن الخطاب: أمطر المعروف مطراً فإن أصاب الكرام كانوا له أهلاً وإن أصاب اللئام كنت له أهلاً.
ورغم أن المعروف لا إسراف فيه إلا أن فعله في غير مكانه مدعاة إلى نكرانه، الأمر الذي يتطلب تقديم المعروف إلى أهله لأن وضع الخير في غير محله فيه إساءة للخير، وعونٌ للئام على التمادي في الفساد والتطاول على الكرام، وقد قال على بن أبي طالب: الكريم يلين إذا استعطف واللئيم يقسو إذا ألطف، وقال عمر بن الخطاب: ما وجدت لئيماً إلا قليل المروءة، وقد قيل: لا تصلح الصنيعة إلا عند ذي حسب أو دين، وقيل خمسة أشياء ضائعة: سراج يوقد في الشمس، ومطرٌ وابل في أرض صبخه، وامرأة حسناء تُزف إلى عنِّين وطعام أستجيد طبخه يقدم إلى سكران، ومعروف لا يشكر، وعدم شكر المعروف يستوجب تعجيل العقاب. وإذا كان الأمر يستدعي ما قرع بابه وجذب أهدابه والشيء بالشيء يذكر، فإن بذل المعروف في مفهومه الواسع يتخذ أشكالاً من الجود معروفة، ومسارات بالإحسان موصوفة ومألوفة يسير عليها أهل الفضل والبذل في كل زمان ومكان، أما بالنسبة للدول فإن ما تُبذل من منح وهبات ومساعدات إنسانية وقروض وودائع بنكية وما في حكمها من الدعم المادي والمعنوي يتم وفقاً لضوابط تتحكم فيها عوامل ذات منطلقات وطنية وأهداف سياسية وأبعاد قومية تلتقي عند تقاطع المصالح وطبيعة العلاقات المتبادلة والروابط المشتركة بين الدول. وهذا الدعم المادي بأنواعه يتعين أن يقدم إلى الشعب بصورة معلنة وواضحة على هيئة مشاريع في الإسكان والصحة والتعليم والنواحي الإنسانية والخدمية وغيرها، وإعلانه لا يعني المن به وإنما يهدف إلى استخدامه في مجالاته بعيداً عن التكسب غير المشروع من قبل المرتزقة وأصحاب المصالح الشخصية الضيقة الذين من السهل في يوم من الأيام انكار المعروف وعدم الاعتراف بالفضل إلى أهله.
وعندما تكون الدولة الداعمة والدولة المدعومة تنتميان إلى انتماء قومي واحد فإن الحسد يلعب دوره في تغذية الجحود والنكران عند أصحاب النفوس الخبيثة والطباع السيئة، دافعاً إياهم إلى التجني على مَنْ يحسن إليهم كما هو الحال بالنسبة لبعض اللبنانيين وبعض اليمنيين ومن على شاكلتهم من العرب تجاه المملكة ودول الخليج.