د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
** لم تكن دهشتُنا قد توارت بعد دخول التلفزيون بيوتَنا - في منتصف الستينيات الميلادية - حتى فاجأتنا الشاشاتُ «الجداريةُ» التي تَعرض باتساع مساحة الجدار على شباب المراكز الصيفية، وآلاتُ العرض تبث أفلامًا إعلاميةً وتثقيفيةً من إنتاج «أرامكو»، ورأى بعضُنا عبرها مناطقَ لم تُقدّرْ له زيارتُها، وتوجيهاتٍ لم يسبقْ له وعيُها، وتقنيةً ظنَّ أنها المنتهى.
** عشق الصبيُّ السينما من لدن أن بهرته عروضُها المتواضعةُ، وحين قدم إلى الرياض لاستكمال دراسته ارتاد سينما الأندية، وإذا سافر إلى جدة فأمامه سينما «الأحواش» في أفنية المنازل، واستأجر مع رفاقه آلات عرضٍ وأفلامًا اختاروا مضامينها، وفي أول رحلة له خارج الوطن كان له موعد في «سان دييغو - كاليفورنيا» مع صالات العرض المجهزة والأفلام الأميركية ذات الإبهار والمستوى، ولن ينسى أولَ فيلمٍ شاهده: (من التاسعة حتى الخامسة) وبطلته: دوللي بارتون، ومِن عشقه للسينما حين يسافر خارج الوطن يدخل فيلمين أو ثلاثة في اليوم الواحد.
** جرى هذا قبل شرعنة السينما في المملكة، أما بعده فقد ارتاد موقعًا واحدًا، ورأى فيلمًا لم يعد يذكره، والسببُ توغلُ السينما في منازلنا خلال السنوات الماضية عبر محطاتٍ متخصصةٍ ببث الأفلام والمسلسلات، والظنُّ أنه مشترِكٌ في معظمها، ولا يكادُ يمر يوم أو يومان من غير أن يرى فيمًا أو فيلمين؛ فهي في نظره من أهم وسائل التثقيف والترفيه معًا، وفيها من مهارة العرض، وجودة المعروض، وإضاءة التأريخ، ودقة التوثيق ما لا ينافسه فيها سواها من الوسائط المرئية.
** تابع عبرها أحداث الحرب العالمية الثانية، وسيرة تشرشل، ومسيرة هتلر، وحياة الأميرة ديانا، ومآسي المغنية برتني، وطبيعة العمل داخل البيت الأبيض، والحكم في قصر باكنغهام، وتنافس صحيفتي التايمز والبوست الأميركيتين، والانهيار المالي العالمي، وكيفية إدارة المشروعات الإعلامية التلفزيونية، والفساد المخيف داخلها، والعديد من مشابهاتها، وهو ما يغني فيه الفيلمُ الواحد عن بضعة كتب، ولا يعني هذا الاعتدادَ بها أو الاعتمادَ عليها بل لتبقى مصدرًا ضمن مصادر، أما الأفلام الترفيهيةُ والحَركيةُ والتراجيديةُ وما يخص «الدراما» - بصورة عامة - فهي عالَمٌ مملوءٌ بالجميل والقبيح والجيد والرديء.
** اليوم اتجه الحديث نحو الإنتاج السينمائي المحلي، ومع يقين صاحبكم بضعف الإنتاج العربي إلا من أعمالٍ معدودة، فإن الدَّورَ المفترضَ فيها أداؤُه كبير، والمنتجاتُ السابقة لا تحفز على المشاهدة، وما عُرض من مسلسلاتٍ عبر القنوات السينمائية عن خطفٍ وقطع طرق وإثارة تحفظاتٍ واستنهاض خلافات لا يبشرُ بتفاؤل.
** السينما ليست خيرًا كلُّها ولا شرًا جُلّها، ومبتدؤُها وعيُ المسافة بين مجتمعنا ومجتمعاتهم، وإدراكُ أن الأعمارَ لم تعدْ حاجزة، والتربية ليست عاجزة، وكما وجلنا من التلفزيون والإنترنت والفضائيات ثم صارت معطياتٍ أفاد منها المحافظُ والمنطلق فإن السينما قادرةٌ على ربط المحتوى بالمستوى.
** الوسائطُ تُدارُ ولا تدير.