عبدالوهاب الفايز
في مقال الأسبوع الماضي حول قمة الرئيس جون بايدن عن الديمقراطية، كان السؤال المُتأمل هو: ماذا تعني لنا قمة استثنت نصف العالم تقريبا، انطلاقا من معايير خاصة يراها الحزب الديمقراطي الذي تهيمن عليه توجهات اليسار الليبرالي الثقافي الذي يسعى لتكريس هيمنة الأفكار الجديدة للبراغماتية الأمريكية المخلوطة بالعقيدة الثقافية والدينية التحريرية المؤمنة بقدسية الفرد وحقه المطلق لتقرير مصيره. المؤسف أن هذه الأفكار تلقى الدعم لإعادة الهندسة الاجتماعية والنفسية والتشريعية.
قلنا: لتمضي هذه القمة إلى حيث تشاء أمريكا، فلن تغتال فينا الوعي أو تهزم فينا الإرادة، ولن تأخذ منا سعينا لأن نرى - عبر نموذجنا الخاص- قيم التعاضد والتشارك بين الحاكم والمحكومين تتحقق لأجل عمارة الأرض. إذا الديمقراطية الغربية تعني مسؤولية الحكومة أمام الشعب، نحن نراها أكثر من ذلك. في الإسلام الحاكم يخاف التفريط بالأمانة العظمى.. فالمسؤولية أمام الله سبحانه وتعالى أولا، ثم المسؤولية أمام الناس.
الأسبوع الماضي قلت إننا اتخذنا طريق تحقيق (الحكم الصالح/ الرشيد) الذي يساعد الناس على ما استخلفوا فيه.. أي عمارة الأرض. وهذا المبدأ وضعه الملك المؤسس عبدالعزيز يرحمه الله، مواصلا ما بدأه أجداده منذ تأسيس الدولة الأولى أي: ترسيخ مقومات الحكم الصالح الذي يقوم على تعزيز مقومات الكرامة الإنسانية ومحاربة الفساد، ومواصلة توسيع مساحة العمران. ويقوم على الأمانة في تحمل مسؤولية الحكم وقيادة البلد مستعينا بأفضل القيادات وأحسن السياسات ومكرسا لقيم الشفافية والنزاهة للوقاية من الفساد.
لذا، ولتحقيق ذلك، منذ زمن بعيد ما زلنا نواصل جهودنا لنتعلم مقومات الحكم والصالح وما يتطلبه من التعايش والسلام الاجتماعي. ومن هذه تعلم مهارات القيادة والإدارة عبر إتاحة فرص التعلم والترقي المهني لأبنائنا وبناتنا في الجامعات والمعاهد المتخصصة في الداخل والخارج. منذ ستة عقود بلادنا تكرس جهدها وبرامجها الحكومية لتمكين الأجيال الجديدة من مواقع قيادة المنشآت الحكومية، ويتم تصميم المبادرات والبرامج لتدريب القادة وإعدادهم وتأهيلهم وتربيتهم على ضرورات وأدبيات خدمة الناس ورعاية مصالحهم وتسهيل أمور حياتهم.
أيضا، ومن ضرورات تحقيق الحكم الصالح الرشيد، تعلم الآليات والأدوات التي تساعد القيادات على أهمية الانتباه والحرص على (الإحساس بالمشاكل المقلقة للناس). وهذا ضروري حتى لا تتراكم المشاكل ويصعب معالجتها. وهذا له المؤسسات المتخصصة التي ترصد وتتابع وتقيم الأداء للقيادات لأجل تطوير ممارساتها ومساعدتها على تصحيح الأخطاء ومعالجة القصور. أيضا ولأجل تحقيق أمر مهم لاستقرار الدولة وحراسة مصالحها العليا يحرص ولي الأمر على ايجاد الآليات والمبادرات والمناسبات الوطنية التي تساعد على معرفة وتعلم متطلبات الدين وأدبيات الدولة، بالذات التي بُني عليها العقد الاجتماعي الذي أسس لشرعية الدولة وحدد رسالتها التي تقود تفاعلاتها وتضع أولياتها الوطنية. كذلك، ولبناء منظومة الحكم الصالح، تعليم الأجيال تأريخ بلادها منذ قيامها وحتى تأسيسها الحديث وتوحيدها الذي قاده الملك عبدالعزيز ورجاله، يرحمهم الله، فهذا التاريخ المشرف تتعلمه الأجيال المتتابعة حتى تحافظ على ثمار الجهد والتضحيات الكبيرة التي بذلها أجدادها لكي يوجدوا هذا الكيان الكبير. هذا التاريخ هو وقود بناء روح التعايش وهو المظلة التي تحمي الجبهة الداخلية. أيضا أحد أدوات بناء الحكم الصالح القناعة بأهمية دور القطاع الخيري وضرورة تمكينه وتوسيع نطاق عمله. الآن نحن نمضي لحفز الناس وتمكينهم من إنشاء وإطلاق كيانات القطاع الثالث، وهذا سوف يؤدي إلى (توسيع مشاركة) الناس في بناء القرارات التي تمس معاشهم وحياتهم اليومية، ففي هذا إثراء لتجربة الدولة، وفيه حافز للناس إلى التعاون والتعاضد والتشارك في تقديم الخدمات وسد الاحتياجات الإنسانية للمحتاجين، وتعظيم قيم العطاء والتطوع ومنح الجهد والحلم والخبرة يرقي الإحساس النبيل بالمواطنة، ويجعل جهد الناس وأفكارهم مكوّناً حقيقياً لـ(رأس المال الاجتماعي).
ولا ننسى أمراً مهماً وضرورياً لتعلم مقومات الحكم الصالح وهو: تعليم الناس آليات ومهارات التفكير الإيجابي. في السنوات الأخيرة انطلقت العديد من المبادرات الحكومية والأهلية لتعليم الناس مهارات التفكير الإيجابي والذكاء الاجتماعي والعاطفي. هذه الجهود في بداياتها، ولكنها تجد الدعم والمساندة من الحكومة، وهذا مؤشر على أننا نتعلم ضرورات مساعدة الناس على تسهيل أمور حياتهم. تعلم مهارة التفكير الإيجابي تحتاجه الأفراد والمجتمعات لمواجهة ظروف الحياة وتقلبات الأيام. ولي الأمر دوره وواجباته تسهيل مهمة الناس لعمارة الأرض ومساعدة الناس للقيام بدورهم التشارك الإيجابي.
أيضا نتعلم الحكم الصالح عبر الاعتراف بالأخطاء وتصحيحها وعدم المكابرة. الذين يعملون في الحكومة ليسوا ملائكة معصومين، عملهم يحتمل الخطأ والصواب. تلافي الأخطاء مؤشر على رجاحة العقول وحسن تدبير الأمور، فالاعتراف بالأخطاء وعدم الإنكار، والتعريف الدقيق للمشاكل، والتجرد من الذات والأهواء يعطي الفرصة للتعلم وبناء الخبرة للمسؤولين الحكوميين بالذات الذين انتقلوا إلى المواقع الحكومية حاملين خبرتهم الفنية المحترفة في القطاع الخاص، وتنقصهم ثقافة ومهارة صنع السياسات العامة وفلسفة بناء القوانين وتطبيقها. رحلة التعلم هذه طويلة ومرهقة وفيها النجاحات وفي الإخفاقات، والذي نراه كسعوديين هو تطور تجربتنا، فنحن جميعا، الحاكم والناس، نتعلم كيف نكون شركاء في مسؤولية عمارة الأرض، والحاكم مستمر في التعلم كيف يكون القوي والأمين والرحيم المجتهد بوضع القوانين والإجراءات التي تحمي مصالح الدولة وأموالها، والحريص على توزيع الثروة بين الناس، والأهم القيادة بالرحمة والحب. ألم يقل الرسول صلى الله عليه وسلم: (خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم).