د.عبدالله بن خميس بن سُنكر
لم تزل اللغة العربية -على مرّ العصور- في مقدمة اللغات الحيّة، وفي الصفوف الأولى للحضارات التي أقامها الإنسان؛ تتحرّك في دوائرها الخاصة، وخارج دوائرها، بتمكينٍ إلهيٍّ، وشموخٍ جبَّار، وقواعدَ راسخةٍ، وثقافةٍ أصيلة، وتفتح أبوابها بثقةٍ أمام الحضارات الأخرى؛ وتتواصل معها بمعاييرها الخاصة، فتأخذ منها ما يلائمها في إطارها العربي، وتنحاز إلى هداية الدين، ونور القرآن، وتقدير الإنسان، حتى أصبحت ركيزةً أساسيّةً في بناء الحضارة الإسلامية، ومعلمًا بارزًا من معالم العروبة؛ وجسرًا للتواصل الحضاري والإنساني؛ يمتد في سياقين متوازيين: سياق الإبداع والعطاء في مجالي العلوم النظرية والتطبيقية، وسياق الأخذ من الصور الحضارية التي نبتت في الأرض العربية، أو التي وفدت إليها.
نقرأ في شهادات المؤرخين الغربيين؛ الذين أرّخوا للحضارة والعلم، بأن المرحلة الرائدة لعصر العلم الحديث، تمّت على أيدي العلماء المسلمين في العصر الزاهر للحضارة الإسلامية، وأن حركة الإحياء - في بدايات عصر النهضة الحديثة لأوروبا - قامت أساسًا على ما نقلتْه أوروبا من تراثنا العلمي والحضاري، في علوم الطب، والرياضيات، والكيمياء، والفلك، وغيرها، ودرّسته في مدارسها وجامعاتها؛ كرسائل جابر بن حيّان (ت 198هـ) في الكيمياء؛ التي كُتبت باللغة العربية، ثم تُرجمت إلى اللاتينية والألمانية والإنجليزية، وكتابِ (الجبر والمقابلة) للخوارزمي (ت 236هـ)؛ الذي نُقل إلى اللاتينية ثم الإنجليزية، وكتابِ (الحاوي في الطب) للرازي (ت311هـ)؛ الذي قالت عنه زيغريد هونكه: «إنّ كلَّ الكتب موجودةٌ فيه»!، ووصفت مؤلفَه بأنه «أحد أعظم أطباء الإنسانية إطلاقًا»، وكتابِ (القانون) لأمير الأطباء الرئيس ابن سينا (ت428هـ)؛ الذي كان له أعظم الأثر في الشرق والغرب قرونًا طويلة، وكان كاتبه من أعظم معلمي الغرب، خلال سبعمائة سنة، وكتبِ ابن الهيثم (ت430هـ) في الرياضيات، والفيزياء، والفلك، والهندسة، وطب العيون، والإدراك البصري، والفلسفة العلمية، وبعضها محفوظ في المكتبة الوطنية في فرنسا ومتحف برلين، وكتبِ شيخ الفلسفة الفارابي (ت339هـ)، التي نُقل بعضها إلى اللاتينية في العصور الوسطى، وطبعت في باريس (1638م)، كما طبع بعضها في لندن، ومناطق أخرى، وغيرِها كثير...؛ يقول ماكس فانتاجو في كتابه (المعجزة العربية): «الحق أن مؤرخينا قد حاولوا جهدهم أن يجعلوا من العالم العربي محورًا للتاريخ، مع العلم بأن كل مراقب يُدرك أن الشرق الأدنى هو المحور الحقيقي لتاريخ القرون الوسطى... (وأنّ) تأثير اللغة العربية في شكْل تفكيرنا كبيرٌ».
أعلم أنه لا يكفي أن ندبِّج الخطب للزهو بامتداد شعاع اللغة العربية في مساحات شاسعة من العالم، أو نسوّد الصفحات للثناء عليها في يومها العالمي، لكننا نحتاج - قبل ذلك وبعده - إلى رؤية توقظ فينا الوعيَ بتاريخنا وحضارتنا، تُرشِدُنا إلى المعاني الكبرى، التي تنطوي عليها لغتنا الخالدة؛ لنرتِّبَ على إيقاعها خطواتِنا في دروب الانتماء، ونزيلَ غشاوة التراخي عن عقولنا، ونقيمَ بناءنا على أساسٍ متينٍ ومقنع (لا على معلّقات المديح وعبارات الثناء فحسب)، ثم نسجّلَ اشتراطاتنا للتواصل مع الحضارات، كما فعلنا- من قبل- حين بسطنا لغتنا وعلومنا على ربوع الدنيا؛ فغرّدت المدائن بلساننا وتمدّنَتْ، وتشكّل تفكيرُها وتطورت، وسارتْ على الدروب التي عبّدها أعلام العرب والمسلمين؛ فترجمت عنهم نفائس العلوم، واستلهمت أفكارهم وذخائرهم، ونقلتْ نصوصهم العربية الخالدة إلى لغاتها؛ يقول جوستاف لوبون: «وكلما أمعنا في درس حضارة العرب، وكتبهم العلمية، واختراعاتهم، وعاداتهم، وفنونهم، ظهرت لنا حقائق جديدةٌ، وآفاقٌ واسعة، ولسُرعان ما رأينا أن العرب أصحاب الفضل في معرفة القرون الوسطى علوم الأقدمين، وأن جامعات الغرب لم تعرف لها، مدة خمسة قرون، موردًا علميًّا سوى مؤلفاتهم، وأنهم هم الذين مدّنوا أوربة، مادةً وعقلًا وأخلاقًا؛ وأن التاريخ لم يعرف أمةً أنتجت ما أنتجوه في وقت قصير، وأنه لم يفُقْهم قوم في الابتداع الفني».
فما الذي تغيّر إذن؟، وماذا حدث ليتمزّق هذا المجد، ويرقَّ الانتماء، وتتأخر الأولويّات، وتنقلب الحال؛ حتى أصبح بعض العرب يحيا برؤية غربية خالصة، ويغترف من هذا الإناء أو ذاك بلا ضابط، وكان الأولى أن يكونوا -على الأقل- ندًّا قويًّا لهذه الحضارات؛ فيأخذوا أفضل ما لديها، ويتلقوا المفيد من أفكارها ويهضموه؛ ليزدادوا به صحة وقوة، ومكانة بين الأمم.
نحتاج إلى وعيٍ حضاريٍّ معاصر بضرورة الانتماء إلى لساننا العربي المبين وتراثنا الخالد، وبوجوب الفخر بلغتنا العربية العظيمة، بكل قداستها وفخامتها، وبكل أمجادها؛ لكي نصون بها هويّتنا، ونحفظ كرامتنا ونتحضَّر في آن معًا. وللوصول إلى هذه النتيجة، لا بدّ أن نسعى في إطارنا الثقافي العربي، وننطلقَ من رؤيةٍ ثقافية تخصّنا، وننقّيَ عربيّتنا من الشوائب التي تكدِّر نقاءها، وتطمس معالمها، وتشوّه جمالها، ثم نعطي حضارة العصر أروع ما لدينا من معارف علميةٍ وثراءٍ إبداعي، ونأخذ عنها نصيبنا من العلم والثقافة.
** **
عضو هيئة التدريس - جامعة المعرفة