د.فوزية أبو خالد
سؤال البحث العلمي الاجتماعي عربيًا
هو سؤال جدير بالبحث سياسيًا واجتماعيًا وثقافيًا خاصة في المكان والزمان اللذين تكون فيهما حالة المجتمعات حبلى بالأسئلة.
فلماذا لا تنشط بحوث العلوم الاجتماعية في مسائل اللحظات الملحة ولماذا لم تتعمق منهجيًا دراسة الواقع على أسس علمية مع اتساع وتعدد الجامعات والمراكز البحثية (نسبيًا) ومع تعدد أوعية النشر من الورقي للإلكتروني وتعدد منافذ التواصل عربيًا وعالميًا بل بين الباحثين والمبحوثين ومع تعقد الواقع المعاش وتغيراته المتلاحقة التي تنحو لمحو المجتمعات بمعناها الواقر المعروف واستبدالها بواقع افتراضي بجانب تغيرات جذرية أخرى لا تقل تحديًا للدارسين.
وهذا ما يجعل السؤال بديهيًا ومستحقًا عما يبدو نوعًا من القطيعة المعرفية بين البحث العلمي الاجتماعي والأرضية الاجتماعية.
والمؤلم أن القطيعة البحثية المتسعة بين العلوم الإنسانية والواقع الميداني العربي نجدها تنطبق على العلاقة بأحوال الواقع في الشدة والرخاء معًا. أي إن تلك الفجوة موجودة سواء في التحولات الرخائية المتمثلة في قفزات تنموية واسعة بمنطقة الخليج وأهمها اتساع مساحة التعليم الجامعي الداخلي والخارجي والتغير النوعي في أنماط المعيشة ومستوياتها وتعايشها جنبًا إلى جنب مع تحديات المنطقة الاقتصادية والسياسية على مستوى داخلي وعربي وإقليمي وعالمي، أو في حالات الشدة المتمثلة في المواقف المريعة التي مر بها الوطن العربي كله والكثير من بلدانه من العراق لسوريا ومن اليمن للبنان ومن ليبيا لمصر بل لم يسلم من قلقها وقلاقلها وتداعياتها والتداعيات المضادة بلد عربي واحد وربما مع وجود وسائل التواصل الاجتماعي ومنها منصات اللقاءات الإلكترونية ويبنار وزووم وتيمز إلخ.. يمكن لعلماء الاجتماع والعلوم الإنسانية والمشتغلين بالشأن الثقافي في بعده الاجتماعي والسياسي والتاريخي التغلب على التشظي السياسي والتشرذم الجغرافي والحدود والسدود والتباعد الاجتماعي الكوروني وأخواته والحواجز النفسية ومتحوراتها، والتنادي بمبادرات فردية أو بمبادرة الأقسام المختصة في الجامعات أو الجمعيات المعنية لعلماء الاجتماع العرب أو ما شاكلها من مؤسسات بحثية وفكرية كالثنك تانك إلى سلسلة لقاءات تطرح السؤال وتغوص في الأسباب للخروج من عنق زجاجة لتلك الخيارات الضيقة بين «الفُرجة» أو مراوحة البحوث المدرسية أو الانسحاب.
*****
سؤال البحث العلمي الاجتماعي وصنع السياسات بالخليج والمملكة
وإذا كان هذا حال السؤال في الوطن العربي بشكل عام فإن ربطه بأرضية وآلية العمل بالسعودية والخليج تحديدًا لا يقل مساءلة كما أن التصدي لمثل هذا السؤال وسلسلته عن غياب البحث الاجتماعي والسياسي وإحجام الباحث عن القيام بمهمته البحثية، القادرة على القراءة النظرية للواقع الميداني قراءة تحليلية، التي هي مهمة وأمانة معرفية ووطنية في جوهرها، لا يقل تساؤلاً عنه كاستحقاق مطلبي ملح.
ونؤكد على هذا الاستحقاق في هذا السياق خاصة أن السعودية تحديدًا بعد فتح باب الابتعاث واسعًا وبسخاء لكل أطياف المجتمع شابات وشبابًا منذ العام 2001 لديها اليوم ربما أكبر عدد على المستوى العربي من الدارسين والخريجين من جامعات عالمية في أوروبا وأمريكا الشمالية، الكثير منها عريق بحثيًا وفي مجملها هي جامعات مبنية على البحث العلمي ومؤهلة لتعليم طلابها تعليمًا غير بنكي قائم على التفكير وعلى الفكر النقدي بما يمكن الطلاب ومنهم بطبيعة الحال طلاب العلوم الاجتماعية ومبتعثو الجامعات في تلك التخصصات من اكتساب معرفة نظرية ودربة منهجية متمكنة. ولهذا عندما نرى الفجوة البحثية في بلد كالسعودية والخليج الذي لم يمر بالصدامية العنفية الجارية في الجوار العربي بشكل يومي، وأتيح لمتخصصيه فرص تعليمية وتدريبية مؤصلة منهجيًا، بجانب الدعم الرسمي السخي لجامعاته، فلا بد أن نتساءل: ما الذي يمنع العمل البحثي الاجتماعي والسياسي الجاد من دراسة الواقع والتحولات الانتقالية العريضة التي يمر بها المجتمع وتحدياتهما الداخلية والخارجية؟ ويمكن ربط السؤال بسؤالك: ما الذي يمنع التصدي بحثيًا للأسئلة والقضايا الكبرى التي يواجهها الواقع العربي اليوم بما يشبه الصمت على فداحتها.
*****
الكف عن أن نكون مادة بحثية للغير نحو بحث علمي اجتماعي لواقعنا
لقد كنا تاريخيًا وصرنا راهنًا بشكل متزايد مادة بحثية لشتى مراكز البحوث العالمية وبيوتات الفكر ومؤسسات صنع السياسات والتخطيط الخارجي في أمريكا الشمالية والصين واليابان مرورًا بأوروبا، وخرجت وتخرج مادة علمية بعضها انثروبولوجي وبعضها سيسيولوجي وسياسي واقتصادي وبعضها استخباراتي عن مجتمعنا العربي بمختلف بلدانه.
توجد اليوم فروع لدراسة الشرق الأوسط والخليج بل والسعودية في مختلف أقسام الدراسات الاجتماعية بل في فروع متخصصة منها. ومن تلك الأقسام للدراسات الشرق أوسطية ما يقوم في أعرق الجامعات الأمريكية كهارفرد وبرنيستون وجورج تاون ويل وكورنيل وبيركلي إلخ. كما أن بعضًا منها في تعاون علمي «باتفاق فردي على الأغلب»، يستضيف البعض منا في محاضرات أو كأساتذة زائرين أو ببرامج زمالة وذلك للمزيد من محاولات التعرف على «واقعنا العربي» عن قرب. هذا بينما جامعاتنا ومراكز بحوثنا بالمقارنة بالكاد تنحو لدراسة واقعنا دراسة بحثية استكشافية تحليلية فيما يخص أسئلة المجتمع والدولة الكبرى، ولو فعلنا فلا نستغني عن المراجع الأجنبية في البحوث والكتب المكتوبة بأيدي غيرنا عنا. وإذا كانت الاستعانة بمراجع الآخرين أمرًا لا ضير علمي فيه بل قد يكون تنويع المصادر أمرًا ضروريًا، فإن المشكلة لو بقيت تلك المراجع الأجنبية المكتوبة عنا مصدرًا رئيسًا ووحيدًا «لتعريفنا بحثيًا» على واقعنا على الرغم من التوسع العريض في دائرة الباحثين والمتخصصين في العلوم الاجتماعية عندنا. والأدهى هو أن تتجه دول المنطقة بما فيها الخليج والسعودية لبيوتات الخبرة البحثية ومراكز الدراسات الخارجية في أوروبا وأمريكا التي طور بعضها قدرة نظرية ومنهجية وخبرة ميدانية في المنطقة العربية ومنطقة الخليج وتحول لشركات بحث وتخطيط رأسمالية عابرة للقارات، لطلب المشورة منهم ولتكليفهم بالبحوث والدراسات ولاقتراح السياسات التي تحتاجها المنطقة سواء في مشاريعها التنموية الوطنية أو في تحدياتها الداخلية والعربية العربية والإقليمية.
فلماذا قد يكون ذلك؟
هل يكون لثقة بالغة في منهجية العمل البحثي لمراكز الاستشارات الغربية والأمريكية مقارنة بالثقة في العمل البحثي المحلي أو لفارق موضوعي حقيقي بين العمل البحثي المحلي والعمل البحثي الأجنبي، أو لأن الجامعات تعتبر (مدارس بأحجام كبيرة) وبالكثير فهي معنية بدراسة وبحث بعض إشكاليات السلوك الاجتماعي التي يغلب عليها الطابع التحفظي في المحتوى والخفة المنهجية في تناول مواضيع كالطلاق والزواج وتعدد أشكال الزواج وإشكالات الطفولة، أو لأسباب أخرى يجب بحثها واستكناهها لمعالجتها إن أردنا للبحث العلمي في مجال العلوم الإنسانية ببلادنا أن يزهر ويكون بوصلة لنا في التحولات وفي وضع السياسات بل في مواجهة الأسئلة والتحديات الكبرى.