الهادي التليلي
يرى الفيلسوف برغسون أن الإنسان حيوان رامز أي أن الجانب الرمزي بما هو قدرة لغوية وتعبيرية محددة لماهية الإنسان فالإنسان ليس فقط الجانب المادي الحسي إنما هو أعمق من ذلك إنه القدرة على التواصل والتفاعل والإبداع جماليا من خلال الفنون بمختلف مجالاتها ومن خلال الممارسة الترفيهية كان ذلك إنشاء أو تفاعلا فالترفيه الذي نراه المضاد الحيوي الفعال ضد التطرف والتعصب والإرهاب هو زيادة على ذلك ممارسة مجتمعية ملتصقة بالإنسان منذ ولادته ومرافقة له على مدى حياته إنها الإنسان في حله وترحاله في فرحه وحزنه إنها رفض الجمود فالعمل إذا ما اقترن بالمتعة والشغف والرغبة صار في حد ذاته ممارسة ترفيهية والطريق إلى العمل مشيا على الأقدام أو على وسيلة نقل إذا ما كان مقترنا بالرغبة سواء بالرفقة المرغوب فيها أو بالموسيقى المصاحبة يصبح ممارسة مرفهة وحتى البكاء عند الطفل أو المرأة أو الرجل هو في عرف علماء النفس بمختلف مدارسهم وخاصة علم النفس التحليلي عند فرويد تحديدا وحتى تلميذه جاك لاكان هو عملية ترفيهية حتى إن فرويد ذهب إلى أن عملية الرضاعة لدى الطفل في أشهره الأولى ليست ممارسة بيولوجية بحتة، بل هي ممارسة إيروسية تتحقق فيها اللذة والرغبة والترفيه بل حتى النائحة في العزاء إنما هي تصعد وتخرج ضغطا وألما إنها عملية تنفيس وترفيه من نوع خاص وحتى من يتأثر بمشاهدة دراما أو أي إنتاج درامي مؤثر تراه يتأثر ويبكي إنه ليس حزنا بل يترفه وهو ما يعبر عنه الإغريق بالكاثرسيس أي التطهر والاغتسال الروحي والتخلص من الأدران بل إن الممارسة الصوفية التي تصل إلى الذوبان الروحي والحلول في الذات الأسمى هو شكل من أشكال الترفيه فالترفيه ممارسة إنتاج معنى يلتصق بالرغبة والتأثير وهو علاج سوسويلوجي وسيكولوجي للقلق والرتابة والروتين حتى إن فيلسوف الأنوار الفرنسي فرنسوا فولتير اعتبر العمل هو الممارسة الترفيهية الأشد تأثيرا «العمل يبعد عنا ثلاث آفات القلق والحاجة والرذيلة» وهذا التعريف متجاوز للترفيه بكونه تأثيث وقت الفراغ والترويح خارج وقت العمل لأن الترفيه وهذا تعريف انتروبولوجي بنيوي يرى الترفيه فعلا ترويحيا يكون في كل لحظة من حياة الإنسان سواء خارج وقت العمل أو داخله بل حتى في فترات الصحو أو المنام وهنا إحالة على كتاب تفسير الأحلام لفرويد الذي يرى بكون الحلم فعلا ترفيهيا يتحقق فيه ما لا يتحقق في اليقظة.
فالترفيه منذ لحظة البشرية الأولى هو ممارسة ومعايشة وأثر وهو ما عكسته الرسوم والأشكال في المغاور والجبال حيث توثق مشاهد صيد أو حروب كما تعكس مخيالا خصبا يركب رأس حيوان على جسد إنسان وتحتفي بالجمال بتصوير المرأة والطبيعة والحياة في أبهى حللها فالترفيه الذي يتوارث كممارسة اجتماعية من خلال احتفالات المجموعة والقبيلة بعد نهاية كل حصاد من خلال مهرجان عفوي أحيانا ومنظم أحيانا أخرى وهو أيضا المترسخ في الطقوس الدينية قديمها وحديثها بالأهازيج والأناشيد المؤثرة إلى حد البكاء حينا وإلى حد الفرح والسرور الأقصى حينا آخر بل حتى الشغف العلمي والبحث بغاية الاختراع والابتكار هو ترفيه عميق يعطي معنى ودفقا من المتعة لدى صاحبه وحتى الممارسة الرياضية بل حتى ممارسة اليوغا ورياضات القسوة هي فعل ترفيهي أصيل لأن الترفيه تلتقي فيه المعادلة الإغريقية والمعبر عنها بالتقاء الإيروس والتاناتوس فالإيروس هو اللذة والتاناتوس هو الألم فلو تأملنا في مشهد تكون العضلات عند الرياضي ونموها نجده ألم إرهاق العضلة بجهد حركي مركز ينتج عنه تكون العضلة وظهورها بل إن سيغموند فرويد مؤسس علم النفس التحليلي يذهب إلى كون العملية الجنسية هي التقاء لذة المتعة بألم الممارسة سواء عند الذكر أو الأنثى عند البشر والحيوان على حد سواء ومارغريت ميت عالمة الأنتروبولوجيا ترى أن المتعة واللذة والترفيه مسألة ذاتية مستشهدة بكون اللون الأسود الذي قد يتبادر لدى الشعوب الغربية بكونه لون حزن هو عند الصينيين لون فرح بما يعني أن الترفيه ملتصق بالذات التي تصبغ على العالم مشاعرها.
فالترفيه في ماهيته ليس فقط الفعل الترفيهي المؤسس ونعني به الفعالية والاحتفالية وليس فقط المدن الترفيهية مثل مدن العلوم وديزني لاند وغيرها والمناطق الصناعية الترفيهية مثل المدن السينمائية في هوليود والهند والشوارع الترفيهية مثل ممشى هوليود بوليفارد بلوس انجلس وشارع وول ستريت بنيويورك أمريكا وشارع الشانزيليزي بفرنسا والأحياء الترفيهية مثل حي الأمباجادوري في مدريد الإسبانية وحي فستروبرو الدنماركي وغيرها بل هو التفاعل والحياة الناجمة فيها لذلك جاءت فكرة المسارات السياحية والترفيهية التي هي الرحلة المنتظمة والواعية بين المحطات الترفيهية في برمجة مدروسة تجعل من الفعل الترفيهي لا مجرد حدث أو مكان بل مسار يتحرك فيه طالب المتعة جامعا بين لحظة التمتع بمشاهدة مكامن الجمال من فضاءات طبيعية جميلة كالخضرة أو البحار أو الجبال وبين رحلة اكتشافها والمشاركة في متعة مغامرة التعرف عليها فالمسار الترفيهي هو خدمة يستهلكها عملاء يرغبون في المشاركة في الفعل لا الاكتفاء بالتقبل ويعتبر المسار مولد لمفهوم في السياحة وزيارة المتاحف والتفاعل معها لدرجة أن التطبيقات الحديثة التي صارت رديفا للمتاحف الكلاسيكية أنشأت تماهيا بين المتحف الحسي والمتحف الافتراضي لدرجة جعلت المسار عابر للقارات في إطار مسابقات وتنافسات حفزت وسائل النقل الجوي ونشطت السياحة وأثثت المشهد بترفيه متعدد السطوح تلتقي فيه متعة السفر مع الرغبة في الاكتشاف مع نزعة التنافس والتسابق والتحديات
والترفيه أيضا ليس هذا فقط هذا حيث إن نشأة المدن والمجتمع المديني جعل من عملية الترفيه ترتقي إلى الجهد المؤسسي وهو ما أكدناه في كتابنا «المنوال الترفيهي الدائم» فلا ديمومة للفعل الترفيهي حتى وإن أنجزنا أنشطة وفعاليات خرافية أو بنينا مدنا ومسارات وشوارع فارهة ما لم يدخل هذا الفعل في خيار مؤسسي ومنوال واضح المعالم دائم الفعل لا يرتكن إلى زمن محدد أو مكان محدد بل لا يرتهن بوجود فاعل مبدع ينتهي بمجرد ارتقائه في سلم النجاح الوظيفي فالفعل الترفيهي الدائم يكون كالشجرة لها عروق في كل الأماكن والمحافظات من خلال مؤسسات قائمة فاعلة طوال العام ووفق برمجة تستجيب لحاجات المستهدف المحلي وتشبه لونه الثقافي والاجتماعي فلكل شريحة بشرية نمط ترفيهي يشبهها كما أن هذه المؤسسات الفرع تضمن النشاط الترفيهي الدائم والمتوازن غير حبيسة لفصل له نقطة بداية ونقطة نهاية فالترفيه لا ينتهي ولكن ينتظم في بناء تكميمي متوازن وتلك كيمياء الفعل الترفيهي العلمي يركز على التوازن والمقادير فلحظة الاختلال الكمي تكون النتيجة عكسية حيث ما بعد نقطة نهاية الفعل لترفيهي لا يشعر المستهلك للخدمة الترفيهية لا بالفراغ ولا بالتخمة إنه توازن مدروس فالترفيه ليس تجميعا للحفلات فقط إنه بناء محكم يحتاج إلى مؤسسات دائمة الفعل وفق خطط مدروسة بناءة ذات رسائل وطنية ومساهمة في صناعة جيل محلي قادر على صنع الفعل الترفيهي لأن الترفيه الذي لا يشبه جمهوره في ثقافتهم وحاجتهم المستقبلية يعد ترفيها لمنشئه اي لمقدم الفعل الترفيهي لا جمهوره.