تفضل عليَّ الدكتور عبد الله بن سُليم الرشيد بإهدائه لي نسخة من كتابه هذا، والذي كنتُ أبحث عنه ومجموعة أخرى ذات صلة بشعرِ وأدبِ وأعلامِ الجنّ، والباحث عن موضوعٍ شائقٍ شائكٍ كالباحث عن مفقودٍ له في دنيا مترامية الأطراف، فهو إما يقع على ما يسدّ نهمه عبر ترحاله وتجواله في المكتبات، وإما يتحرّق بنار البحث حتى يجد ضالّته ويريح ركابه استعداداً لجولات أخرى، تلبية لنزعةٍ يريد إشباعها، أو تحقيقاً لغاية يريد سدّ فجوتها، وهذا ما كنتُ ولا زلتُ أستشعره حينما أبحثُ عن موضوعٍ قلّت مصادره، بغية إرواء غليلي من المعرفة، حيث إن مثل هذه المسائل قليلة التدوين كدراسة أدبية وليس دينية، وهو ما أشار إليه المؤلف بقوله: (والذي أودّ أن أعطفَ إليه القارئ، هو أن هذا الكتاب الموجز يعالج ضرباً من الأدب الذي كاد يُنسى، على طرافته، وأوشك أن يندثر على أهميّته، وهو الشعر الذي نُسب إلى الجن وما أطاف به من أخبار تشرّق حيناً، وتغرّب حيناً آخر...).
وقد أبدع المؤلف في دراسته التي طوّرها مذ كانت بحثاً صغيراً نُشر قبل هذا الكتاب بعشر سنوات، حتى وصل إلى هذا المستوى من الصورة التي صار فيها بين دفّتي كتاب، ففي كل فصلٍ من فصوله يطرح المؤلف بعض المفاهيم حول شعر الجنّ، ففي الأثناء التي لا يؤمن أن للجنّ شعراً وأنه متصنّعٌ لأغراض متعددة، فإنه يقدّم أدلّته وفق مناهج نقدية، فقد استعرض بعض الدراسات التي تناولت هذا الجانب من الأدب، وأشار إلى ما فيها من محتوى ذي صلةٍ بهذه الدراسة، فهو يرى أن شعر الجنّ استغرق في شعر المدح والفخر، خصوصاً في (دلائل النبوّة)، ناهيك أن الشعر الذي نُسب إلى الجنّ يفتقد إلى السمّة الفنيّة، فبعضه متكلّفٌ وغير موزون، وآخر صيغ لأغراض مختلفة، حيث (للشعراء أنفسهم يدٌ في صناعة هذا الشعر؛ ليتملّكوا به ألباب الناس، ويورّطوهم في تصديق هذا الزعم بأن للشاعر رئياً، ومن خلال تمكين هذا المفهوم يتنصّلون من التبعات، ويحرزون كثيراً من الغايات، كبلوغ المآرب الدنيوية، وعلوّ المكانة في مقامات العشيرة).
ومن أسباب المؤلف التي يعزز فيها رؤيته من نفي معظم الشعر للجن هو: (غياب الجن والهواتف عن مشاهد إنشاء الشعر إلا قليلاً عند مجيء الإسلام، والسبب أن تفكير العرب كان محدوداً في العصر الجاهلي، بسبب الجهل وعالم الكهّان، وهذا مخالف للإسلام، حيث إنه مرتبط بالتفكير البدائي) [بتصرّف]. ولم يكن المؤلف أوّل من يقول بذلك، بل استشهد بقول الجاحظ (ت 255 هـ) الذي أسهب في هذا المورد، وأن منشأ ذلك التفرّد في الفلوات وأثره على العقل والتفكير، حيث قال: (ثم جعلوا ما تصوّر لهم من ذلك شعراً تناشدوه، وأحاديث توارثوها، فازدادوا بذلك إيماناً، فصار أحدهم حين يتوسّط الفيافي، في الليالي الحنادس.. فعند أوّل وحشةٍ وفزعةٍ... وقد رأى كل باطل، وتوهّم كل زور فيقول في ذلك من الشعر على حسب هذه الصفة... الخ)، وتعزيزاً لهذا الرأي يرى المؤلّف أن غالب الشعر المتعلّق بدلائل النبوّة ضعيفٌ ركيك، والباقي فمسحته قليلة من جمال الفنّ، وأن واضعيه من القصّاص والوعّاظ تختلف قوّة الشعر بناءً على ثقافتهم، وأن ليس لهم حظٌ من الشعر سوى الوزن والقافية.
وتتميماً لما ذُكر فإن عنصراً مهماً في الشعر وهو: (أن الشعر يقوم على التخييل، فإن إدخال عنصر «الجن» فيه هو جزء من ذلك التخييل، أو الإيهام الموجّه الذي يثير المتلقي إثارة مقصودة). وتبقى الآراء التي نقلتها من هذا البحث قليلة مقارنة بما أدلت به يراعة المؤلّف، الذي اتّسم بحثه بروحٍ علميّة وقلمٍ أدبيّ سيّال، ويشار في هذا الصدد أن كتاب (الهواتف) لابن أبي الدنيا (ت 281 هـ) من أوائل من كتب في المجال.
** **
- عبدالله بن علي الرستم