انتقل إلى رحمة الله الأستاذ سليمان بن علي السحيباني أبو علي يوم الأحد 9 ربيع الثاني 1443، بعد معاناة طويلة مع المرض، أسكنه الله فسيح جناته، وجعل معاناته طهورًا وتكفيرًا..
ولد أبو علي في البدائع من منطقة القصيم في نهاية النصف الأول من القرن الهجري الماضي، في وقت كانت نجد تعاني من حالة بائسة من الجوع والخوف والمرض توفيت والدته ثم والده وهو ما زال طفلاً وتركا له طفلين صغيرين، لقد بذل قصارى جهده ليوفر الطعام الذي لا يكفي حتى لسد رمقه ورمق أخويه، فأصبح يُتمه يُتمين: يتم نفسه ويتم شقيقيه، اللذين لا يدركان ما يجري حولهما، كانت أمانة يعجز عن حملها الرجال الأشداء فكيف بطفل لم يتجاوز عقده الأول. فرسم في ذهنه الصغير أنه سيتكفل برعايتهما بنفسه، ويعوضهما عن فقدان والديهما. وهنا حدثت الفاجعة حين مرض الأخوان مرضًا مفاجئًا ثم توفيا. وقع الحدث عليه كالصاعقة إذ فقد كل أقاربه الأقربين ولعل ذلك هو الذي طبع حياته بروح التحدي والمعاندة للظروف المحيطة به، فترك بلدته، وانتقل إلى الرياض والتحق بالمعهد العلمي ثم هاجر إلى الطائف والتحق بدار التوحيد، وأنهى فيها دراسته الابتدائية والمتوسطة والثانوية بتفوق. وهنا تعرف على محمد بن الشيخ ناصر الوهيبي (لاحقًا الدكتور) وتوثقت العلاقة بينهما زمالة وصداقة ورفقة في السكن، فتعاونا على تحمل أعباء المعيشة فمكافأتهما لا تكفي لتلبية احتياجاتهما، وكثيرًا ما يبيتان طاويين من الجوع، ولا يهنآن بالطعام اللذيذ إلا عندما يزوران أبا محمد الشيخ ناصر الوهيبي -رحمه الله- في الطائف، حيث الضيوف لا يكادون يفترون.
واستمرت الزمالة والرفقة بينهما حتى بعد تخرجهما من كلية الشريعة بمكة المكرمة، وتوجت تلك العلاقة بزواج أبي علي من نورة بنت الشيخ ناصر الوهيبي سنة 1384هـ. وكان قد تعين قبله بسنتين مدرسًا في الطائف، ولتميزه علميًا وحسن تعامله مع الطلاب انتدب للتدريس في اليمن ثم الإمارات العربية المتحدة ولما عاد تولى إدارة بعض مدارس الطائف ثم دار التوحيد.
وكانت علاقته بأسرته قائمة على الحب والرحمة والتربية، وضم إليهم أولاد الشيخ ناصر الوهيبي الصغار، حين توفي عنهم -رحمه الله- وهم أطفال فشملهم بعطفه وتوجيهه وكأنهم أولاده بل شمل حنانه ورعايته أحفاد الشيخ.
لقد انعكست الظروف القاسية ليتمه ويتم شقيقيه إيجابًا على شخصيته، فأغدق عليهم حبه وحنانه ولم يلق اللوم على أحد، بل حرص كل الحرص على التواصل مع أقاربه ويزورهم ويكرمهم، وأصبح بيته وبيت أم سليمان - بعد وفاة زوجها الشيخ ناصر الوهيبي - كأنه بيت الضيافة للسياح والموظفين المنتدبين للعمال في الطائف أثناء الصيف أما الحجاج والمعتمرون فكان أشبه بالميقات.
وكافأه الله بزوجة وأولاد تقر بهم العين، فالبنات الثلاث حصلن على الدكتوراه في تخصصات مهمة (د. انتصار ود. ابتهال ود. أسيل)، وكن متفوقات وحصلن على جوائز علمية قيمة. أما الأبناء الثلاثة فهم مهندسون متميزون؛ فعلي ورائد في شركة أرامكو، وباسم في مستشفى الحرس الوطني.
كانت حياة أبي علي صورة معبرة عن التحول الكبير الذي شهده بلدنا من الفقر والخوف والجهل والمرض إلى الرخاء والأمن والسلامة والمعرفة، بمنّ الله وفضله. وقد قامت دارة الملك عبدالعزيز بمقابلة أبي علي وتسجيل عدة حلقات معه في برنامجها الطموح عن التاريخ الشفهي للمملكة.
أما معرفتي بأبي علي فقد امتدت نحو خمسين سنة منذ زواجي بأخت زوجته، وامتزجت العلاقة بأخوّة أعز من الصداقة وبصداقة أعز من الأخوة. وفي السنة الأخيرة من بعثتي عاد أولادي من أجل المدارس، فغمرهم أبو علي بعطفه الأبوي الحنون ورعايته الكريمة فأحبوه، وحين جرحت ابنتي الصغيرة تسنيم أصبعها وكان عمرها سنتين قالت: (أروح لعم أبو علي يصلحه).
رحم الله أبا علي وأسكنه الفردوس الأعلى من الجنة وألحقنا وإياه بالنبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وجزاه الله خير جزاء لقاء ما عانى وأسدى.
** **
- د. عبدالله العويشق