خالد أحمد عثمان
(لكل أجل كتاب).. في صباح يوم الثلاثاء 5 ربيع الآخر 1443هـ الموافق 30 نوفمبر 2021م، صعدت إلى بارئها روح الأخ الحبيب والصهر الأعز، والأقرب إلى قلبي ناجي صادق مفتي، وعندما وصلني خبر نعيه اغرورقت عيناي بالدموع وأنا أقول لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم (إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ)، ثم خطر على بالي قول أمير الشعراء أحمد شوقي:
إن أوهى الخيوط فيما بدا لي
خيط عيش معلق بالوريد
مضغة بين خفقة وسكون
ودم بين جرية وجمود
ولد الفقيد في المدينة المنورة عام 1934م، وأمضى معظم سنوات عمره في الخدمة العامة فقد اضطررته ظروف المعيشة إلى الالتحاق بالعمل الحكومي، بعد حصوله على شهادة الإعدادية ولكن طموحه دفعه إلى مواصلة التعليم وهو موظف، فحصل على الشهادة الثانوية ثم بكالوريوس الاقتصاد والعلوم السياسية من جامعة الملك سعود عام 1964م، وتنقل خلال فترة وجيزة بين عدد من الجهات الحكومية إلى أن استقر به المقام في وزارة الخارجية منذ عام 1961 ، وتدرج في وظائف السلك الدبلوماسي إلى أن وصل إلى مرتبة «سفير»، ثم تقاعد في عام 1988م.
في عام 1962م عُين الفقيد، يرحمه الله، مديراً لمكتب وزارة الخارجية في الرياض عندما كان مقر الوزارة في جدة، ثم انتقل إلى عضوية الوفد السعودي في هيئة الأمم المتحدة في نيويورك عام 1966م. وشاهد خلال هذه الفترة انعكاسات كارثة حرب 1967م على الوفود العربية في الأمم المتحدة وكان يذكر بمرارة الانكسار والخزي الذي ران على هذه الوفود، ولم ينس أبداً أن رئيس الوفد السوري أعلن سقوط القنيطرة طالباً النجدة من الأمم المتحدة لوقف زحف القوات الإسرائيلية إلى دمشق، بينما كان رئيس الوفد الإسرائيلي ينفي آنذاك سقوط القنيطرة، ثم ظهرت الحقيقة فيما بعد أن وزير الدفاع السوري آنذاك أعلن سقوط القنيطرة وانسحاب الجيش السوري من مرتفعات الجولان قبل أن تغزوها القوات الإسرائيلية التي احتلتها فيما بعد من دون أي مقاومة.
ثم شهد الأحوال التي صاحبت صدور قرار مجلس الأمن الشهير رقم 242 الصادر 23 نوفمبر 1967م الخاص بتسوية الصراع العربي - الإسرائيلي. وفي عام 1971م انتقل إلى السفارة السعودية في الخرطوم، حيث تبوأ منصب القنصل العام ثم عاد في 1974م إلى ديوان الخارجية مديراً لإدارة المؤتمرات والمنظمات الدولية. وفي عام 1977م انتقل إلى السفارة السعودية في لندن وتبوأ منصب القائم بالأعمال نيابة عن السفير، إلى أن عين في عام 1987م سفيراً لدى المكسيك، وفي عام 1993م عين سفيراً لدى تركيا وظل في هذا المنصب إلى أن تقاعد بناء على طلبه عام 1998م.
وأجد هنا مناسباً أن أشير إلى واقعتين الأولى حدثت اثناء عمله في الخرطوم حيث تعرضت السفارة السعودية في 1 مارس 1973م لهجوم مسلح من قبل ملثمين ينتسبون لمنظمة أيلول الأسود الفلسطينية، وكان السفير السعودي آنذاك عبد الله الملحوق يقيم حفلا دبلوماسيا في السفارة لوداع القائم بالأعمال الأمريكي واستقبال السفير الأمريكي الجديد (كليو نويل). وقد أدى هذا الاعتداء الأثيم إلى مقتل الدبلوماسيين الأمريكيين والقائم بالأعمال البلجيكي. ولم يكن الفقيد حاضراً هذا الحفل بسبب ظرف صحي طارئ، لكنه كان يذكر هذا الاعتداء الأثيم بأسى ويعتبره مثالاً لأخطاء ورعونة الفصائل الفلسطينية التي ضل سعيها وأضرت بالقضية الفلسطينية ضرراً فادحاً وهي تحسب أنها تحسن صنعاً.
والواقعة الثانية حدثت اثناء عمله في لندن حيث تلقت السفارة السعودية في لندن إشعاراً بوجود قنبلة داخلها فطلب الفقيد، يرحمه الله، من جميع الموظفين إخلاء مبنى السفارة فوراً، وبقي هو داخله وحيداً يتجول في أرجائه. ولما دخلت قوة من الشرطة البريطانية المبنى للبحث عن القنبلة فوجئت بوجوده فسأله قائد القوة لماذا لم تغادر المبنى، فرد عليه إنني ابحث عن القنبلة فتبسم الضابط البريطاني وقال دعنا نقوم نحن بهذه المهمة.
التحق الفقيد اثناء عمله في نيويورك بعدة دورات في جامعة نيويورك ومعهد الأمم المتحدة للبحوث والدراسات الدبلوماسية. وأكسبه العمل في الأمم المتحدة خبرة عميقة في الشؤون الدولية، وكنت عندما أتحاور معه يكشف عن موهبة في التحليل السياسي.
وكان الفقيد، يرحمه الله، معجباً جداً بالمرحوم الأمير سعود الفيصل، وزير الخارجية الأسبق، وكان ينوه به بوصفه رجلاً فذاً وأنه فارس الدبلوماسية السعودية والعربية الذي كان يصول ويجول للدفاع عن مصالح بلاده ومصالح الأمة العربية.
شهادتي في الفقيد قد تكون مجروحة بسبب علاقة المصاهرة التي تربطني به لمدة تزيد على ستين عاماً، إذ كان زوج شقيقتي الكبرى، لكني أشهد صادقاً انه كان مستقيماً بأجمل معاني الكلمة، وكان عف اللسان ودوداّ، طيب المعشر، حلو الشمائل، كان عميد أسرته وموئلها في الشدائد. ولقد سمعت ثناء عاطراً عليه من كثير من الذي عملوا معه أو تعاملوا معه، ويكفي أن أشير في هذا الصدد إلى أنه قبيل إقامة صلاة الميت عليه أثنى عليه إمام المسجد ثناء جميلاً ووصفه بخصال حميدة منها حرصه على أداء صلاة الفروض الخمسة في المسجد ومساهمته في أعمال خيريه مختلفة. رحم الله الفقيد وأسكنه فسيح جناته، والسلام عليه يوم مات ويوم يبعث حياً.
** **
- محام وكاتب سعودي