في هذا اليوم وهذه الليلة أنا حزينة كئيبة، لكني بالله صبورة.. أسعى للرضا عن أقدار ربّي علّي أنال رضاه. وصلَني خبرُ وفاة جدي؛ تسمّرتُ في مكاني لحظاتٍ.. عدتُ للوراء؛ وأولُ ما لمحتُه ابتسامتُه حديثُه عذوبتُه ولطافتُه ومواقفُه معي وذكرياتُه.. التي تبكيني أكثرَ كلَّما تذكّرتُها.
جدّي ماذا عسايَ أن أقول؟.. «إنّا لله وإنّا إليه راجعون، ورحمك الله رحمة واسعة».
ورحلَ جَدّي ذلك الإنسان الجميل الخَلوق الصالح..
أحسبه كذلك ولا أزكي على الله أحدًا.
رحل جدي ولم ترحل ابتسامته العذبة من خيالي؛ ولم يرحل ذكره الحيُّ من مجالسنا وبين الناس تاركًا طيبَ سُمْعَته العَطرَة.
يحقُّ لي البكاء؛ كيف وقد رحلتْ أمّي قبله بأشهر مضت..
ورحل هو الآن؛ وكانت الفاجعة كبيرة جدًّا.. فصبرًا يا فضة.
كنتُ أرى ظلال جدي في الحياة أنسًا لي وارفًا؛ وأخبارَه بهجةً لقلبي مؤنسًا؛ وزياراتي له راحةً لي وارتياحًا؛ خاصةً عندما أقبّله على جبينه الناصع ووجهه البهيّ ويديه الكريمتين؛ وأقول له أنا فضة يا جدي؛ فما يكون منه إلا أن يبتسم لي؛ وابتسامتُه تلك -والله- تفتح في نفسي آفاقًا من السعادة لأحلّق بأجنحة عندما أراه كذلك وعندما يحدّثني أو يسألني، وكعادته يحنّ عليّ ويرأف بي؛ ممّا يجعلني أسعد أكثر.
كم مرةٍ لعبتُ أمامه.. كم مرةٍ أكلتُ معه..
كم مرةٍ جلستُ عنده.. كم مرةٍ حنَّ عليّ.. أشياء كثيرة.. كم وكم.. ومرةً من المرات أوقفني بعد تعثُّر..
إنه جدي القريبُ لقلبي؛ الحبيبُ لروحي؛ البهجةُ للحياة.
أذكر عندما تعثّرتُ يومًا مرة وقفَ بجانبي.. أعرف أنه كان يحبّني، وأنا أيضًا أحبّه.
ساعدني بحزمٍ باطنُه الرّقّة، لكنّي لم أغضب من تصرُّفه وحزمه؛ كنت أرى اللطف في داخله ينبع حبًّا وصفاءً؛ وموقنة بذلك.. كنت أراه جَدًّا وأبًا.. كنت أراه بلسمًا وأرى ضحكاته دواءً وحديثَه عسلًا وأخلاقَه تُحتذى.
أعود وأقول: صبرًا يا فضة؛ إنَّ الله إذا أحبَّ عبدًا ابتلاه.
صبرًا؛ فرحمة الله واسعة؛ والأجر عظيم بالاحتساب؛ والجبر لا محال حاصل؛ والصدر رحيب متى لجأ لله وآمن بقضائه خيره وشرّه.. وأحسنَ الظنَّ بالله؛ ولم ييأس ولم يجزع أو يسخط؛ بل كان صابرًا حامدًا ذاكرًا راضيًا بأقدار الله.
جدي كم أفتقدك! أفتقد ذلك الحنان الذي كان يروينا؛ والعطف الذي يسلينا؛ والرقة التي تبكينا، فالقلب متألّم؛ والحال ليس على ما يُرام، لكني أعلم أنه سيصلح الله الحال؛ وسيبهج القلب بجبره وبرحمته بي وبقَبول دعواتي التي أدعوها لجدي -رحمه الله رحمة واسعة-.. وكلي ثقة بأن وعد الله آتٍ بالبشارات.
لا يمكن ومحال أن أتناسى تلك الذكريات الجميلة.. واللحظات اللطيفة.. ولا يمكن تناسي جدي الإنسان الطيب.. كان شهمًا ورائعًا.. وهو الحنون علينا.. وماذا بعد يا جدي؟ ماذا أقول عنك؟ وأنت الذي يعرفك القريب والبعيد؛ ويحبُّك الصديق خاصةً؛ ويجلُّك الناس عامةً.
لم يكن ديدنك كثرة القيل والقال؛ ولم يكن طبعك القسوة؛ ولا من صفاتك سوء الأخلاق.
لا يمكن أن أنسى أو أتناسى ذكريات طفولتي.. آتي إلى بيت جدي الملاصق لبيت جدي من أبي -رحمهما الله جميعًا-..
وأركض من داري إلى داري وأمرح.. (وأنا أعتبر داره داري، لا فرق بينهما، كلتاهما داري). وأقفز أحيانًا على الجدار للوصول أسرع لبيت جدي وألعب بالدُّمى وألعب الكرة.. كانت بي من الشقاوة طفلةً لكن خلوقة وأحبُّ اللعب جدًّا، وأعيش عمر البراءة بكل لحظاتها الرائعة.. وكانت أمّي تصطحبني مَرّاتٍ ومَرّاتٍ.. إلى بيت جدي الذي كان مرحّبًا بأمي أشدَّ ترحيب يأخذها بالأحضان بكلّ حنانٍ وبكلّ حبّ أبٍ عظيمٍ.
كانت أمي تأنس به وبوجوده في الدنيا وتخاف عليه جدًّا، بل أحيانًا لا تنام الليل إذا علمت بوعكته الصحية..
والله إني أرى في أمي هذا الحبَّ الكبير لجدي الذي ترعرع بداخلي أيضًا له؛ إنها تسقيني ماء الودّ وتصبّه على بذرات قلبي يومًا وراء يوم؛ وكلَّ يوم لتنمو تلك البذور وتنمو.. شيئًا جميلًا كبيرًا عظيمًا رائعًا رقيقًا كلَّ الرقة.. علّمتني أمي حبَّ جدي وحبَّ صلة أرحامي، كما علّمتني شيئًا جميلًا أن أحبَّ الناس ولا أحسدَهم وألا أقومَ بأذيّتهم، وعلّمتني أن أبتسم وأضحك للجميع.. هنا جدي وهنا أمي كانا أعظم مربّيَيْن لي.
رأيت فيهما من المحاسن الطيبة وكل الجمال والبشاشة.. تلك البشاشة التي أحبُّها فيهما وأفعلُها وهي سجيّتهما.
ورأيت فيهما أن أكون قويّةً أيضًا متماسكةً.
كنت أدخل بيت جدي وتستقبلني رائحة البخور الفوّاح.. ورائحة الأكل الزكيّة.. وأشعر أن هذا البيت يستقبلني بكلّ تَرْحاب وسرور.. وكأني أحلّق في سماوات الفرح بين غيوم الأنس وأنا في بيت جدي.
نجتمع نحن وأطفال أخوالي في بيت جدي على المائدة.. وذلك الصحن المدوَّر الذي زُيّنَ بالأكل اللذيذ والأرز الطيّب.. كنّا في بيت جدي نشعر بالعزّ فعلًا ونشعر بالأمان ونشعر بحلاوة ذلك الجَدّ الذي كان يحيطنا بحنان عظيم.. الجَدّ الذي يخشى علينا كثيرًا.. ونخشى نحن أيضًا من إغضابه أو ترك أوامره ونواهيه، فقد كان مربّيًا وخيرَ مربٍّ لنا بأخلاقه وتعامله وكفاحاته وصبره ورضاه وإيمانه وحتى صلواته، لا أنسى ذلك.
جدّي اليوم أنا أبكيك، وسأظلّ أبكيك، وكلَّما مررت بخاطري أبكيك صوتًا؛ أو يحدث لي ما أسميه بكاءَ الداخل دونَ صوتٍ؛ لكن المشاعر بهذا البكاء لها صوت مؤلم كسير جريح يئنّ خافتًا..
وهناك في أحيانٍ أُخَرَ.. أحبّذ أن أبكيَك في صلواتي وأضمَّك في دعواتي وألا أبخلَ عليك بصدقاتي، ولا أشحَّ عليك بأعمال البرّ.. سأكون سخيّةً لك وبحبّي الذي يتدفّق منّي وفيَّ بكلّ سخاءٍ ووفاءٍ برًّا بك.
اليوم عرفت أن الحياة لا دوام لها، وإن كنت أعرف ذلك أساسًا ومسبقًا؛ لكن حالي حال المتيقن اليوم الذي أحسَّ وشعرَ وجرَّبَ في الحياة تجارب كثيرة.. وتألَّم عند مواقف عديدة.. وزاد يقينه ليعيش تلك الحياة بإيمان تامّ جازم: إنه لا دوام ولا بقاء إلا لله وحده، قال تعالى: (كُلُّ مَن عَلَيها فانٍ).
وإنه جاءت بشرى الله للصابرين وصلوات الله ورحمته وهداه لمن استرجع، قال تعالى: (وَلَنَبلُوَنَّكُم بشَيءٍ منَ الخَوف وَالجوع وَنَقصٍ منَ الأَموال وَالأَنفُس وَالثَّمَرات وَبَشّر الصّابرينَ * الَّذينَ إذا أَصابَتْهُم مُصيبَةٌ قالوا إنّا للَّه وَإنّا إلَيه راجعونَ * أُولئكَ عَلَيهم صَلَواتٌ من رَبّهم وَرَحمَةٌ وَأُولئكَ هُمُ المُهتَدونَ).
وممّا نعلمه ونتّعظ به أن رسول الأمّة الإسلاميّة ونبيّ الرحمة للبشريّة جمعاء قد توفّاه الله؛ وهو خير من وطئ الثَّرى وخير الأنام كلّهم، وذلك الشيء الذي يعزّيني ويخفّف من وطأة أحزاني، فكيف بنا ونحن الذين من دونه نرتجي ألا نُصابَ بشيء ولا نغتمَّ ولا نحزنَ أبدًا؟ إنها سنن الحياة.. قال تعالى: (إنَّكَ مَيّتٌ وَإنَّهُم مَيّتونَ) كلمات قرآنية تختصر حقيقة الوجود، والرسولُ -عليه الصلاة والسلام- هو الذي نحتذي به كمالًا ورُشدًا واستقامةً ورحمةً وهدًى ونبراسًا منيرًا فنتّبعه مقتدين به.. نعبد الله، وتلك الغاية من هذه الحياة.
هذا وإنّ مُصابَنا عند مصاب موت الأنبياء هو أكبر عزاء يهوّن علينا ما نمرّ به من مصائب ومشكلات في الحياة.
لسنا حقيقة مخلَّدين في الدنيا، ولن يخلد أحد البتة، فالخلود الحقيقي الذي نرجوه في جنات الخلد جنات النعيم.. أرجوها لجَدّي وأمّي وأموات المسلمين، وأقول: يا ربّ، وممّا نخافه عذاب الله، فأقول: رحماك ربي.
علينا الاستزادة من الأعمال الصالحة والأقوال الطيّبة؛ وأن تكون النية مصدرًا لكل عمل وقول؛ وهي الأساس في تحريك الجوارح وإعمال الفكر وأحاديث القلب.
متّبعين في ذلك المصدرَيْن الكتابَ والسُّنَّةَ، وفي ذلك علينا اتّباعُ هَدْي رسولنا محمد -صلى الله عليه وسلم-.
اللهمَّ الرحمةَ لجدّي.. الرحمةَ لقلوبنا والرأفةَ ببكائنا وبدموع الأحبّة من قُرْبَى وفي الله.
اللهمَّ إنَّ نظرةَ رحمةٍ منك لي أرجوها بصدق لَتبدّل الأحوالَ وتجلبُ المسرّات.. تروي نفسي.. وتبهج قلبي.. وتريح فكري.. وتحسن الأفكار.. وتثلج صدري.. وترحم أمواتَنا وكلَّ مَن دخلَ في دعائنا من أقاربَ وأحبابٍ.
يا ربّ صبرًا فرضًى فجبرًا فسعادةً وحبورًا في الدارين؛ وعوضًا عن كلّ ما فات وكان مؤلمًا، فالراحم الله؛ وهو الرحمن الرحيم، والرازق الله، وهو الجبّار الكبير، والسميع الله، وهو العليم الودود، الكريم الحكيم العظيم؛ سبحانه جلَّ شأنه وتقدّست أسماؤه في علاه؛ سبحانه القادر، وهو على كل شيء قدير.
يبقى في القلب حبًّا ويدوم ودًّا؛ حتى لو فارقْنا أحبابًا وجدّي الحبيبَ الذي له هذا الحبُّ بوصفه..
رَحمَكَ الله رحمةً واسعةً.. جَدّي.
** **
- فضة حامد العنزي