أولًا: المهاد العام
العنوان عنصرٌ أساسٌ من عناصر الكتاب، وركيزةٌ من ركائزه؛ لأنَّه البابُ المُفضِي إليه، والمُفصِحُ عن محتواه ومضمونه؛ فكانت عنايةُ المؤلِّفين بصناعته، واهتمام المترجِمين بصياغته، ضرورةً منهجيَّةً لا بُدَّ من التزامها، والجِدِّ في تحقيقها.
وممَّا نُلفيه في بعض الكُتُب المترجَمة تقصيرُ المترجِم في صياغة عنوانه، وإغفاله عن فحواه المتوافق مع مضمون الكتاب، أو المتساوق مع مبتغاه، فكان حقيقًا على أن نُشير إليه إيجازًا، ونُنبِّه عليه اختصارًا، بقَدْرِ ما تهيَّأ لنا فيه مِن بِضاعة، عسى أن يتولَّى الإكمالَ أهلُ الدُّربةِ، ويتكبَّدَ الإسهابَ ذَوو الصِّناعة.
ثانيًا: مثال الدِّراسة
ارتأينا أن نُمثِّل لهذا الموضوع بعنوان كتاب مُفيد، وسِفر عتيد، وبحر مديد، هو: «معجم التَّاريخ التُّراث الإسلاميّ في مكتبات العاَلم»(1) من تأليف: علي الرِّضا قره بلوط، وأحمد طوران قره بلوط، الصَّادرُ عن دار العقبة، قيصري - تركيا، سنة 1422هـ / 2001م. وهو في ستَّة أجزاء برقم متسلسل، سادسها فهارس، يضمُّ تسعةً وأربعينَ ألف عنوانٍ بين كتاب ورسالة وديوان، مُوزَّعًا على أحدَ عشرَ ألفًا ومئةٍ وستَّةٍ وثلاثين مؤلِّفًا، ويبلغ مجموع النُّسخ لتلك المؤلَّفات ثلاثمئةٍ وخمسينَ ألف نسخةٍ(2). وهو على الرَّغم من أهميَّته الكبيرة، ومكانته البارزة لدى المهتمِّين بالتُّراث وتحقيقه، فقد اعترى صياغةَ عنوانه شيءٌ ممَّا يُكدِّر صفوَه، ويُؤجِّجُ زُلَاله، وإن كان ذلك لا يُقلِّل من منزلته، ولا يحطُّ من نفاسَته لدى كلِّ ذي شأنٍ وبالٍ.
ثالثًا: نظرٌ وتعليقٌ
يُؤخَذ على عنوان هذا الكتابِ النَّفيس المترجَمَ عن النَّصِّ التُّركيّ:
(DUNYA KUTUPHANELERINDE MEVCUD ISLAM KULTUR TARIHI ILE ILGILI ESERLER ANSIKLOPEDISI)
الذي يعني بترجمته الحرفيَّة: «موسوعة الآثار المتعلِّقة بتاريخ التُّراث الإسلاميّ الموجود في مكتبات العالَم»؛ ما يمكن إجماله فيما يأتي:
1. الافتقار إلى الدِّقَّة في اختيار المقابِل والمكافِئ المعجميّ العربيّ، وغياب التَّناظر التَّامّ لدلالة المصطلح في لُغته الأُمّ، بانتقاء لفظ «معجم» مقابِلًا للفظ «موسوعة» المعبَّر عنه بـ(ANSIKLOPEDISI) (3)؛ لشيوع دلالة مفردة «معجم» في العربيَّة، وتداولها فيما هو معروفٌ لدى الجميع بأنَّه كتابٌ يضمُّ مفرداتٍ لُغويَّةٍ مرتَّبةً ترتيبًا معيَّنًا، وشرحًا لهذه المفردات، أو ذكر مرادفها أو نظيرها من لُغةٍ أخرى، أو بيان اشتقاقها أو استعمالها أو معانيها المتعدِّدة أو تاريخها أو لفظها(4). فضلًا عن إطلاقه الثَّانويّ على الكتابِ المرتَّبِ محتواه ترتيبَ الحروف الهجائيَّة(5). واللَّفظ المعبِّر عن هذه المعاني في لغة المصدر هو (SOZLUK)(6). أمَّا مفردة (ANSIKLOPEDI) «موسوعة» فتُطلَق في كلتا اللُّغتينِ: المصدر(7) والهدف(8) على الكتاب الذي يشمل جميع المعلومات عن العلوم أو الفنون، معروضةً من خلال عناوين متعارفٍ عليها على نحوٍ معيَّن يغلب فيه التَّسلسل الهجائيّ أو الأبجديّ للُّغة.
فيتبيَّن ممَّا تقدَّم أنَّ استعمال لفظ «موسوعة» في لغة المصدر، واختيار «معجم» مقابلًا له في لغة الهدف -وإن صحَّ بضربٍ من التَّجوُّز بَعيدٍ، وساغ بتمحُّلٍ من التَّأويل كَسيدٍ- يُضعِفُ أداءَ المعنى، ويُورِث الإشكالَ على المتلقِّي، والالتباسَ في المتلقَّى؛ «ممَّا يُحدِثُ سقطةً للنَّاقل في اختيار المرادف الملائم للمصطلح الذي يُعربه»(9).
2. اللَّحن النَّحويّ في التَّركيب الإضافيّ المتمثِّل بـ(التَّاريخ التُّراث) الذي جمع فيه المترجِمُ بين «أل» التَّعريف والإضافة في غير المواضع التي يسوغ جمعهما فيها.
3. الإطالة فيما يمكن فيه الاختصار، والإسهاب في موضع يُغني عنه الإيجاز والاقتصار، فلو اكتُفِيَ بعبارة (فهرس التُّراث...) لكان يُغني عن (معجم تاريخ التُّراث...)، ويُوفي بما يدلُّ عليه.
4. إقحام مصطلح «التَّاريخ» ذي مفهومٍ غربيٍّ دخيلٍ لم يُؤلَف في التُّراث العربيّ، يُبعدُ طريقَ المعنى عن المتلقِّي، ويُوقِعه في اللَّبسِ أو الإشكال، ذلك الإشكال الذي عزاه الأستاذ نواف البيضاني إلى الاصطلاح الغربيّ بقوله: «ولكنَّ هذا الإشكال متأتٍّ من الاصطلاح الغربيّ عندهم في استخدام المفردة كما يبدو لي»(10)؛ لعهد العربيّ إيَّاه -أي: التَّاريخ- دالًّا على المادَّة التَّاريخيَّة، وما يتَّصلُ بها من مضمونٍ أو محتوى أو أحداثٍ أو طريقةِ تعاملٍ معها أو جُهدٍ مبذولٍ لمعرفتها. إذ لا تتعدَّى دلالة كلمة «التَّاريخ» في اللُّغة العربيَّة «خمسةَ أو ستَّةَ معاني(11)، فقد استُعمِلت بمعنى الإعلام بالوقت، وتاريخ شيء من الأشياء قد يدلُّ على وقته الذي ينتهي إليه، مضافًا إليه ما وقع خلال هذا الوقت من حوادثَ ووقائعَ. واستُعملت في التُّراث العربيّ الإسلاميّ بمعنى: أمجاد القوم وخلاصة شمائلهم، فيقال: فلان تاريخ قومه، واستُعمِلت بمعنى تراجم الرِّجال (ببليوجرافيا) ومن ذلك تاريخ البخاري، واستُعمِلت بمعنى رواية أخبار الماضي، كعناوين: تاريخ الطَّبريّ وابن الأثير والذَّهبيّ وغيرهم. وتُستعمَل اليومَ أيضًا بمعنى: مسيرة البشر، فيقال: جرى ذلك في التاريخ أو تاريخ العرب، كما تُستعمَل بمعنى كتابة التَّاريخ ودراسته»(12)؛ فلا يُوحِي العنوانُ مع مصطلح «التَّاريخ» -في ضوء هذه الدَّلالات- بمحتوى الكتاب، ولا يهتدي به القارئ إلى فحواه، ما لم يكن له عهدٌ سابقٌ به، أو اطَّلعَ عليه وعرف مضمونه. وعنوان الكتاب ما سُمِّيَ عنوانًا إلَّا «لأنَّه أبرَزَ ما فيه وأظهَرَه»(13).
رابعًا: مورد الإشكال
يمكنُ عزو أسباب ذلك إلى الموارد الآتية:
1. ضعف المترجِم في اللُّغة المنقول منها أو إليها.
2. التَّداول وعُرف الاستعمال لبعض الألفاظ والمصطلحات لدى أهل لُغةٍ ما دون غيرهم، فيُجري المترجم هذا الاستعمالَ إلى اللُّغة المترجَم إليها، فيظهر المصطلح بدلالةٍ مُشكِلةٍ أو غير معهودةٍ لدى أهل هذه اللُّغة.
3. تأثُّر اللَّاحق بالسَّابق، وتقليده إيَّاه، فلعلَّ المؤلِّفَينِ قد تأثَّرا في الاستعانة بمصطلح «التَّاريخ» في عنونتهما لكتابهما بعنوانَي: «تاريخ الأدب العربيّ لكارل بروكلمان»، و»تاريخ التُّراث العربيّ لفؤاد سزكين»، المترجَمَينِ عن الألمانيَّة (Geschichte der arabischen Litteratur)، و(Geschichte des Arabischen Schrifttums) ، على الرَّغم من أنَّنا لم نقف على دلالةٍ لكلمة التَّاريخ (Geschichte) في الألمانية بهذا المفهوم الوارد في مثل هذه السِّياقات، ولم نظفر -في حدود بحثنا واطِّلاعنا- بمعنًى يتلاءم وتراكيبَ عناوين هذه الكتب(14)! قال أستاذ اللُّغة العربيَّة والتَّرجمة بجامعة لوفان في بلجيكا، الأستاذ الدُّكتور عبد الرَّحمن السُّليمان: «لو كنتُ أنا مترجم العنوان لترجمته بـ(فهراس التُّراث العربي)؛ لأنَّ الكتابين فهرسان ضخمان للتُّراث العربيّ المكتوب، وليس تأريخًا تقليديًّا للأدب الفنيّ من شعر ونثر ومقامة»(15). وقال الأستاذ نواف البيضاني: «لو ترجمتُ لقلتُ: فهرس التُّراث، وأثبتُّ العنوان الأصليّ وشرحتُ وجهة نظري»(16).
خامسًا: البديل لمقترَح
أمَّا التَّرجمة الدَّقيقة التي نرى أنَّها أجدر بالتَّعبير عن الفحوى، ويتوافق مع المضمون والمحتوى، فهي: «فهرس التُّراث الإسلاميّ في مكتبات العالَم»؛ لما يأتي:
1. التَّطابق بين العُنوان والمضمون في المعنى، والإيحاء للقارئ بموضوع الكتاب ومحتواه؛ فيتحقَّق به الشَّرطُ الذي سُمِّيَ به العُنوان عنوانًا.
2. تحقُّق الدِّقَّة في اختيار المكافئ المعجميّ لأداء المعنى المراد بين لغتَي المصدر والهدف.
3. السَّلامة النَّحويَّة في صياغة التَّركيب على ما تقتضيه القواعد العربيَّة، والبناء على إستراتيجيَّة مراعاة القواعد في اللُّغة المترجَم إليها.
4. الإيجاز في الاقتصار على ترجمة ما يُوفِي المعنى، ويُرشِدُ إلى المضمون والمغزى، اعتمادًا على بعض الإستراتيجيَّات المعروفة في علم التَّرجمة، كالحذف والتَّعويض. والله أعلى وأعلم.
... ... ... ... ...
الهوامش:
(1) هكذا هو النَّص العربيّ للعنوان، بالجمع بين «أل» التَّعريف والإضافة في (التَّاريخ التُّراث).
(2) انظر: معجم تاريخ التُّراث الإسلاميّ في مكتبات العالم: مقدِّمة المؤلفَين.
(3) انظر: معجم اللُّغة التُّركيَّة: مجمع اللُّغة التُّركية (ط11): 132. (132:TDK:TURKCE SOZLUK)
(4) انظر: المعجم العربي الأساسي: 824، والمعجم الوسيط (ط4): 586.
(5) انظر: معجم المصطلحات الحديثيَّة للغوري: 15.
(6) معجم اللُّغة التُّركيَّة: مجمع اللُّغة التُّركية (ط11): 2157. (TDK:2157: (TURKCE SOZLUK
(7) معجم اللُّغة التُّركيَّة: مجمع اللُّغة التُّركية (ط11): 132. (TDK:132: (TURKCE SOZLUK
(8) انظر: الموسوعة الفقهيَّة الكويتيَّة: 1 / 53، ومعجم المصطلحات الحديثيَّة للغوري: 18.
(9) المصطلح الأدبيّ بين دلالة المفهوم وإشكاليَّة التَّنظير: 78.
(10) مراسلة معه على التويتر بتاريخ: 29 / 10 / 2021م.
(11) كذا فيه، والصَّواب: معانٍ.
(12) مصادر التَّاريخ الحديث ومناهج البحث فيه: 101.
(13) معجم مقاييس اللُّغة: 4 / 20.
(14) قاموس إلياس الحديث ألماني- عربي: 306.
(15) جوابًا عن سؤالي في مجموعة علوم العربيَّة وفنونها، بتاريخ: 8 / 8 / 2021م.
(16) مراسلة معه على التويتر بتاريخ: 29 / 10 / 2021م.
** **
صفاء صابر مجيد البياتي - العراق، كركوك