تُقدمُ كثيرٌ من السِّير الفكرية للمفكّرين والرحّالين والعلماءِ جوانبَ نفسيةً واجتماعيةً وفكريةً عميقة ونادرة قد لا نجدُها في كتب الفكرِ الممنهجِ أو السير المجموعة التي تكتفي بالتعريف فقط بصاحبِ السيرة وتضاريسِ حياته فقط.
وهذا ينطبقُ على العالمِ المهندس أحمد نسيم سوسة العراقي الذي ولد عاش في العراق ولبنان ودرس في أمريكا وتجوَّل في العالم العربي وعددٍ من الدول الأخرى، ولم يكن تجواله سياحةً ومتعةً، بل كان متعلماً متفكراً دارساً متأملاً.
وُلد في الحِلة قرب بقايا بابل القديمة لأسرة يهوديةٍ عراقيةٍ، سنة 1318 هـ = 1900 م، وعاش محباً للعراق عاشقاً لتاريخه ومندمجاً في مجتمعه الواسع. ونحن نعلمُ أن المجتمع العراقيّ يجمع طوائفَ دينيةً عديدةً وتأليفةً كبيرةً من الأقلّيات الدينيةِ كالصابئةِ واليهودِ وفرقِ النصارى المتعددة ...واليزيديين وغيرهم مما يطول ذكره وشرحه. وتأثر في صباه بشخصيةِ مهندسِ الريّ البريطاني وليم ويلكوكس (ت 1932م) الذي عمل في العراق ومصر وكان له دورٌ كبيرٌ في تطويرِ هندسة الري واقتراح مشاريعِ السّدود في العراق ومصر... ويبدو أن هذا التأثر هو الذي دفع به إلى التخصُّص في المجال نفسه.
درسَ في بيروت وفي الولاياتِ المتحدةِ الأمريكية حتى حصل على الدكتوراه سنة 1930 م في الهندسة المدنية - هندسة الري، وزار مصر وغيرها، وتقلَّب في وظائفَ مختلفةٍ في العراق حتى صار مديراً للمساحة العامّة .كان صاحبُنا ذا عينٍ فاحصةٍ منقّبةٍ تدرس أحوال المجتمع وتحركاتِه الفكرية؛ فمع تخصُّصه في الهندسة والمياه وهو تخصصٌّ خاص، ومع أنّه من أقلية دينيةٍ يهوديةٍ في العراق، إلّا أنه بقي طوال عمره ذا تأملٍ ودرسٍ عميقٍ وعقلٍ معالجٍ لما يراه وناقٍد لما كان يسمعه ويعرفه أو يقرأُه .
ورست سفينتُه بعد هذا التأّمل الطويل على شاطئ الإسلام، فاعتنق الإسلام في مصر سنة 1936 م وعمره 36 سنة. ولا تخطئ العينُ في كلّ ما كتب إعجابَه وتعجّبه من القرآن الكريم وقوةِ تأثيره عليه، ورجوعه إليه للإجابة على السؤالات الصعبةِ. وللقرآن شأنٌ عجيبٌ في النفوس يعرفه من يذوق لسان العرب أو من يتحلى عقلُه بمنطقٍ فطريّ وشفافية نظر لا مكابرة فيه. وهذا عندي السبب الأول الذي قاده إلى الإسلام حتى ألَّف كتاباً سماه (في طريقي إلى الإسلام) طبع في القاهرة لأول مرة سنة 1937م وقرضه مجموعة من علماء العراق. ورأيت له طبعة حديثة سنة 2006م.
كتابُه هذا رحلةٌ فلسفيةٌ ومناقشةٌ للدّيانات لا على سبيل الجدلِ، ولكن على سبيل المقارنة. انتقد العالم المهندسُ في كتابه هذا ومقالاتِه ديانتَه الأولى اليهوديّة بصورتها المتأخرة التي آلت إليها، وانتقد الصهيونية بوصفها حركةً سياسيةً، وناقش أدلتها وردّ عليها. وكانت حينذاك في أوجِ صعودِها ورعايةِ بريطانيا لها، وانتقد الشخصية اليهودية وتطوّرها عبر التاريخِ وسط دائرةٍ من العُزلة سببها عنده تحريفُ الديّن منذ القدم، مستشهداً بالقرآن الكريم. وانتقد نصوص التوراة ذاكراً أن ما فيها من قسوةٍ عن الآخرين تشكك في وُرُودها من مصدرٍ إلهي... وانتقد المسيحيةَ بوصفِها المعاصر قائلاً إنها تصطدمُ مع العقل، وأنها لا تقدم خياراتٍ روحيةً وحلولاً مناسبة للعصر الحاضر، وانتقد الإلحادَ المعاصر والتفككَ الأخلاقي...
كتب أحمد سوسة بالعربيةِ والإنجليزيةِ... وتُعدّ كتاباته انتقاداً مبكراً من داخلِ المحيطِ العربيّ للحضارةِ الغربيةِ وعلاقتها بالإنسان. ومما يثيرُ الانتباه وعيُه التام في كتاباتِه تلك بمسألةِ الأقليات الدينيةِ والطوائفِ وعلاقتِها بأوطانها العربيّة. ونعلمُ أن هذه المسألةَ كانت مصدرَ قلقٍ سياسيٍّ ووطنيٍّ منذ القرن التاسع عشر في بلادِنا لعربية، وما زالت إلى اليوم. وبلاده العراقُ أحد شواهدها.
كانت رحلاتُه العلميةُ تجربةً رائعةً في التعرف على الثقافاتِ والناسِ في الغرب... وأحبَّ تخصّصَه والعلمَ الذي درسه، فألّف عشراتٍ من الكتب والمقالاتِ المهمة في تخصّصِه في الهندسةِ والري، ولكنْ من أهم كتبِه العامة كتابُه عن (العرب واليهود في التاريخ). وهو سِفرٌ كبيرٌ وقع في حوالي ألف صفحةٍ. ويمكن تعريفُه بأنه حشدٌ معرفيٌ وجمعٌ علميّ كبيرٌ استفاد فيه من كلِّ ما توفر لديه من المعلوماتِ التاريخيةِ والقراراتِ السياسيةِ والمعلوماتِ الدينيةِ والاكتشافاتِ الأثرية والحفرياتِ وسير الشخصياتِ حول اليهود بصفتهم شعباً وحول العربِ وعلاقاتِهم، وحاول فيه تصحيحَ كثيرٍ من الأفكار غيرِ الصحيحةِ عن الطرفين...وامتاز بطول النفَس وشمول المعالجة للأحداث... مما يدل على سعةِ معارفِ المؤلّف واستفادتِه من خلفيتِه اليهوديةِ وثقافتِه العربية ومعرفته الإسلامية والوثائقية والآثارية...ومن وجهة نظري ينصحُ كل مثقفٍ بقراءتهِ والاطلاعِ عليهِ؛ فهو عرضٌ شاملٌ جمع محتوياتِ كتبٍ متفرقةٍ سابقةٍ، وأثار قضايا ما زالت محل مناقشات علميةٍ إلى اليوم. وفي الكتابِ موضوعية علمية جيدةٌ تراها في معالجته لقضايا مزعجة متنوعة في الكتاب. وأرى أن هذا الكتاب موطّئٌ في بعض فصوله للدراساتِ التي قامَ بها من بعدُ عالمُ الاجتماعِ المصريّ الكبير د. عبد الوهّاب المسِيري (ت 2008م) رحمه الله، خاصة ما يتعلق منها بمشكلة الهوية اليهودية من الناحية الفكرية.
من الجوانبِ التي قد لا يعلمُها بعضُ النّاس عن حياة المهندس أحمد سوسة -رحمه الله- أنه جاءَ إلى المملكة العربية السعودية سنة 1939 – 1940م للعملِ في دراسةِ مشاريع مياهِ عيون الخرج. وقد ذكرُ بعض من كتبَ في سيرته أنه قد حصل بسبب ذلك على وسام الملك عبد العزيز -رحمه الله- سنة 1939 م ، وهو أمرٌ يحتاجُ إلى توثيقٍ.
وتوفي صاحُبنا العالم سنة 1402 هـ = 1982 م وله ابنة اسمُها عالية رحلت عن الدنيا قتيلةً في تفجير مكتب هيئة الأمم المتحدة في بغداد سنة 2003 م. ووفاءً له ولجهودِه العلميةِ أُسّس متحفٌ ومكتبةٌ باسمه في المركز الثقافي البغدادي سنة 2015 م وجُمعت كتبُه فيها ونسخُ مسوّداتِ أوراقِه وصورُه ومذكراتُه التي سلمتها حفيدتُه إلى المركز. رحمه الله رحمة واسعة وجمعنا به في دار كرامته.
** **
- د. أحمد بن محمد الدبيان
للتواصل مع الكاتب: arabic.philo@gmail.com