سهام القحطاني
«إني أخاف من الحب، ولكن قليل من الحب لا يرضيني»
- مي زيادة -
« تقولين إنكِ تخافين الحب، لماذا تخافينه يا صغيرتي ؟ أتخافين نور الشمس ؟ أتخافين مدّ البحر، أتخافين طلوع الفجر ؟ أتخافين مجيء الربيع ؟ لماذا يا ترى تخافين الحب ؟
أنا أعلم أن القليل من القليل في الحب، أنت لا ولن نرضى بالقليل، نريد الكثير، نحن نريد كل شيء، نحن نريد الكمال.
- رسالة جبران إلى مي زيادة -
هل عاطفة الإنسان الأسبق في التكوين من العقل، أو العقل هو الأول ومن خلاله تتشكل العاطفة، وبهذا التوجه فلا عاطفة خالصة من التعقل إن قلّ أو كثُر ؟
الحب، هو المعلوم المجهول الذي احتارت فيه العقول والقلوب وتمردت ماهيته على محددات الاستفهام ومحتوياتها، «ماهو الحب يا ماري ؟ أعني ما الذي يجعل رجلاً ما يحب امرأة ما دون نساء العالم كلهن ؟ ما الذي يجعل امرأة ما تحب رجلاً ما دون الرجال جميعا، ..لا يوجد تفسير علمي لهذا الحب ، يوجد تفسير ميتافيزيقي منذ أيام الإغريق؛ يولد الإنسان بشطر نفسه، ويعيش حتى يرى الإنسان الذي يولد بالشطر الآخر، وفي لحظة اللقاء يمتزج الشطران ويجيء الحب».
حكاية حب - غازي القصيبي -
قرأنا منذ قصة الحب الأولى في الإنسانية أن الحب يتعارض مع العقل أو قل إن الحب يتمرد على العقل، وسرى هذا العرف في كل حكايات الحب حتى أصبح هو الأصل في الحب التمرد على العقل بكل معادلاته وموازناته، ولعل لذلك تُظلل الدراما غالبا كل حكاية حبّ، فالجنون والموت هما قدر كل حكاية؛ عندما يتحرر الحب من الحسابات والأعراف والتقاليد فيتيه أو يضيع أو ينطلق في فضاء من اللا حدود واللا مقاربات، فينعدم الإحساس بالخوف والمسؤولية الشرطية والعار، وحتى المعايير في ذلك المطلق لها حيثياتها التي لا تقيدها مسطرة الكمال، ففيها الكمال محقق لا نسبة لمسطرة مشروطة بل لوجهة نظر الحبيب والحبيبة المتمردة على كل شرط، ليظل الإحساس هو المقياس الأوحد للكمال، فالعين «التي يعميها الحب لا ترى سوى الجمال» كما يقول غازي القصيبي.
فالحب يُلغي المسافات بين المعقول واللامعقول، فكل لا معقول يُصبح معقولاً، تصبح المبالغات ضوءاً يُزيد بريق الحب نستمتع به ويستمع به الآخرون، فيتلاشى إنكارنا لفجاجة تلك المبالغات ويُصبح واقعاً حلواً يرفرف في عالم حكاية كل حب. « يا امرأة عندما أحبك أحب كل زهرة في كل حقل، أعانق كل شجرة في كل غابة، أضم كل موجة في كل بحر».
حكاية حب - غازي القصيبي -
يكاد الإطار العرفي لكل حكايات الحب أن يتشابه عند كل الشعوب سواء في ظاهره أو باطنه، في مباشرته أو تأويله، فالحب يهزّ قيمة الرجل ويثقب عيباً في سلامة عقله؛ لأنه كما يُعتقد قد يُصيب القلب بالضعف فيؤثر على كمالية العقل، فتختلط لديه معايير التقويم والتقييم ويفقد الحكمة وبصيرة الرشاد فيسقط في الهذيان ويخرج عن الوعي في إطاره المعنوي، ولعل من الطريف أن الكثير من الشعراء شبَّه الحب بحالة السُكر التي تُضيع العقل، فيفقد الحبيب القدرة على التمييز وتُخرجه من حالة الوعي إلى اللاوعي.
«يا فؤادي لا تسل أين الهوى
كان صرحاً من خيالي فهوى
اسقني واشرب على أطلاله
واروِ عني طالما الدمع روى
هل رأى الحب سكارى مثلنا
كم بنينا من خيال حولنا»
- إبراهيم ناجي -
وبما أن الحب يعيب عقل الرجل فقد كان من إطار ذلك العرف «العقاب» الذي يواجه كل رجل يقع في جريمة الحب، وعبر سيرة الحب كان العقاب يتعلق بما انتهكه الحب في الرجل «العقل»، فكان الجنون هو العقاب المفروض على نهاية كل قصة حب، الجنون الممزوج بالألم والعجز ثم الموت، هذا ما تصدّره لنا حكايات الحب؛ لتظل الفكرة الراسخة في القائمة أن الحب ينقض كمال عقل الرجل ويقوده إلى الألم والجنون.
«وَما ذَكَرَتكِ النَفسُ يا بثنَ مَرَّةً
مِنَ الدَهرِ إلا كادَتِ النَفسُ تُتلَفُ
تَعَلَّقتُها وَالجِسمُ مِنّي مُصَحَّحٌ
فَما زالَ يَنمي حُبُّ جُملٍ وَأَضعُفُ
إِلى اليَوم حَتّى سَلَّ جِسمي وَشَفَّني
وَأَنكَرتُ مِن نَفسي الَّذي كُنتُ أَعرِفُ
- جميل بثينة -
أما المرأة فظلت «أنثى ظل لثنائية الحب»، وأشهر القصائد التي طورت الأنثى المجازية في حكاية الحب قصيدة «أراك عصي الدمع « لأبي فراس الحمداني:
«تُسائِلُني مَن أَنتَ وَهيَ عَليمَةٌ
وَهَل بِفَتىً مِثلي عَلى حالِهِ نُكرُ
فَقُلتُ كَما شاءَت وَشاءَ لَها الهَوى
قَتيلُكِ قالَت أَيَّهُم فَهُمُ كُثرُ
فَقالَت لَقَد أَزرى بِكَ الدَهرُ بَعدَنا
فَقُلتُ مَعاذَ اللَهِ بَل أَنتِ لا الدَهرُ
حتى عهد ولادة بنت المستكفي التي أخرجت صورة المرأة العاشقة من أنثى الظل إلى الحقيقية من خلال الإفصاح عن حبها لابن زيدون وإشاعته شعراً.
وسواء أكانت تلك الشخصية وشعرها خيالاً أو حقيقة فهذا الجدل لا يمنع من أن تمرد المرأة العربية على «أنثى الظل» في حكايات الحب كان واقعا في العصور المتأخرة من الدولة العباسية لأسباب عدة لا يسمح المقام لذكرها، فتقول ولادة:
«أناجي اشتياقي والجوى يُعلن النجوى
وأضرع من وجدي لمولاي بالشكوى
فهل من أُرجي طعم من بقربه
يُعين على وصلي ولا يُضمّر السلوى»
أما سعاد الصباح فكان لها نهجها في الحب في كل دواوينها الشعرية التي قد تتحول حيناً إلى مبارزة بين «هو وهي» وحيناً يجمع التكامل بينهما.
«قل لي: هل أحببت امرأة قبلي
تفقد حين تكون بحالة حب نور العقل؟
كيف تصير المرأة حين تحب شجيرة فلّ؟»
- سعاد الصباح -
والتمرد على «الأنثى المجازية» في حكايات الحب نجدها بصورة صارخة في روايات وقصائد غادة السمان: «وأحبك كثيراً.. حين تبتسم تنبت الأزهار في قلب الصخور بالجبال، حين تبتسم، تتناسل أسماك الشوق الملونة وتسبح داخل شراييني».
- غادة السمان -
ولا أحد ينكر دور قصائد نزار قباني في تحرير «أنثى الظل» في حكايات الحب من الدور الثانوي إلى دور البطولة، قصائد حررتها من نموذج الظل إلى الواقع لنرى المرأة تُعبر عن حبها بكل جنون وتمرد وحينا بفحش.
ورغم كل التعريفات المعقدة للحب سيظل الحب كما وصفه الرائع غازي القصيبي - رحمه الله - وإن لم يستطع التحرر من عرف أنثى الظل: «الحب هو أن تخطفك أجمل امرأة رأتها عيناك، وتأخذك إلى دار سرورها الواقع على البحر، وتمشي معك، يداً بيد على شاطئ مهجور تحت أشعة القمر».
- حكاية حب -