د.سهام صالح العبودي
عنوان هذا المقال مأخوذ من فم الطفلة في قصَّة: (كلمات بذيئة) للكاتب إدواردو غاليانو، فاسمحوا لي أن أنقل هذا النصَّ الذي يقارب - في طرافة دالَّة - مسألة: (الكلمات البذيئة). يقول غاليانو في قصَّته:
«كانت (شيمينا داهم) تتنقَّل بتوتر كبير جدًّا؛ لأنَّها ستبدأ في ذلك الصباح حياتها المدرسيَّة. فكانت تركض من مرآة إلى أخرى في أرجاء البيت كلِّه، وفي واحدة من حركات الذهاب والإياب تلك اصطدمت بحقيبة ووقعت مبعثرة على الأرض. لم تبكِ، ولكنَّها غضبت:
- ما الذي تفعله هذه (الخراء) هنا؟
فمارست الأمُّ التربية:
- بُنيَّتي، هذه كلمات لا تقال.
فردت شيمينا، وهي ما تزال مطروحة أرضًا، بفضول:
- ولماذا توجد يا أمَّاه الكلمات التي لا تُقال؟»*.
ينطلق توجيه الأمِّ من استعمال الطفلة هذه الكلمة في سياق تذمُّر وغضب؛ ما يلحقها بالشتائم والألفاظ البذيئة غير المقبولة، ويمكن أن ننظر - مثلًا - إلى كلمة من الحقل نفسه: (البَعر) التي تغدو بين يدي خيال امرئ القيس تحفة صوريَّة تَبَاعَد في سياقها عن الممنوع والبذيء، وتقارب الجماليَّ المؤشِّر إلى حذق المخيِّلة، وإصابتها عين التشبيه:
تَرَى بَعَرَ الأَرامِ في عَرَصَاتِها
وقِيعَانِها كأنَّهُ حَبُّ فُلْفُلِ
الأمر أنَّ عقلي استرجع تساؤل طفلة القصَّة هذا منذ اللحظة الأولى التي بدأتُ فيها مشاهدة سلسلة: (History of Swear Word) (تاريخ الألفاظ النابية) على شبكة (نتفلكس)، برنامج وثائقي في قالب هزلي جريء (إلى حدٍّ متجاوز) يبحث في أصول الكلمات البذيئة الشائعة في اللغة الإنجليزيَّة. يتحدَّث في البرنامج متخصِّصون لغويون، وباحثون اجتماعيُّون ونفسيُّون ومشاهير، يتحدثون ملقين الضوء على هذه الكلمات: جذورها، تحوُّلاتها، واستعمالاتها. والأمر الملاحظ أنَّ كثيرًا من هذه الكلمات قطعت رحلة ابتدأت من استعمالها كلمة ذات دلالة مباشرة، ثمَّ تغطية تسمح بقول (ما لا يُقال)، وانتهى بها الأمر أن تكون - هي ذاتها - الكلمة النابية المحرَّمة، أو (الكلمة التي لا تُقال)، شأنها شأن كثير من الكلمات في واقعنا اللُّغوي، الكلمات التي تفقد براءتها، وتغدو ملوِّثة للسان بسبب وظيفتها التلطيفيَّة تلك!
يدفعنا هذا التحوُّل أن نتساءل - مستعيرين لسان طفلة غاليانو -: لم لا تُقال هذه الكلمات إذا كانت وظيفتها أن تكون جسرًا لقول ما لا يُقال؟!
لم تخلُ اللغة من الجسور الكنائيَّة التي تمنح إشارة مرور لمعنى لا يليق، ويستعرض الثعالبي في مقدِّمة كتابه (الكناية والتعريض) الأسباب التي تقيل كلمة من سياقها، وتضطرُّ قائلها إلى تجاوزها تخفيفًا عن إذن السامع ونظر القارئ: «إنَّ هذا كتابٌ خفيفُ الحجم ثقيل الوزن... في الكناياتِ عمَّا يُستهجنُ ذكرُه... ويتصوَّن عنه بألفاظٍ مقبولةٍ تؤدي المعنى»**، نشهد في الكتاب صورًا من ذكاء العربيِّ في استعمال اللغة، والتصرُّف فيها: اختراع الستائر والغلالات التي تشفُّ عن معنى ولا تبينه في صورته الفجة، لتصنع خيطًا مشتركًا من الفهم بين العقل الذي يبتكر الكناية، والعقل الآخر الذي يدركها استبقاءً للحقيقة التي لا يضرُّها - في رحلة التعبير هاته - أن تُحلَّى وهي تُجلَّى.
لكنَّنا صرنا نجد كثيرًا من مثل هذه الكنايات تتحوَّل إلى ما لا يُقال منضمَّة إلى قوائم من كلمات ينصرف الذهن إلى تصنيفها مرادفًا لمستورها لا سترًا له، نجد هذا في أسماء ثمار وحيوانات ومصنوعات، وفي أوصاف وأحوال... (وهي كلمات أسهمت وسائط التواصل الاجتماعي في تشييعها، وفي زيادة تأصيل وجودها في الدائرة المحرَّمة). ونلحظ أنَّها قوائم غدت تطول شيئًا فشيئًا، ونرى فيها دلالة التعارف والدروج للكلمات وهي تبتلع الدلالة الأصلية في سياقات لم تعنِ شيئًا أبعد من هذا الأصل.
إنَّ اختصاص اللغة بتقديم عقل الإنسان وأساليب تفكيره اختصاص لا ينافسه كثير ممَّا ينتجه الإنسان ويبدعه؛ فهي إدلاءٌ دالٌّ تمتطيه قيم العصر وأفكاره كي تُظهر نفسها في الأساليب والاختيارات، في المظهرات والمضمرات والصور.. فيما يُقال وفيما لا يُقال أيضًا!
... ... ... ... ...
* أفواه الزمن، إدواردو غاليانو، ت: صالح علماني، دار المدى، دمشق، ط1، 2007. ص36.
** الكناية والتعريض، الثعالبي، تح: أسامة البحيري، مكتبة الخانجي، القاهرة، ط1، 1997. ص5.