تلقيت من بضعة أشهر اتصالا هاتفيا من كريمة الأخ الاستاذ عبد العزيز العقاد - رحمه الله - تنقل إلي خبر وفاة والدها الذي مات وهو يصلي - فيا لها من خاتمة حسنة -، وأضافت في حديثها وهي تتكلم بحرقة عن والدها، أنه لم يتعرض لمتاعب صحية في حياته الطويلة، فلقد ظل محافظا على صحته، ويمارس الرياضة بشكل منتظم.
والأخ الاستاذ عبد العزيز العقاد - رحمه الله - هو وكيل ورثة العقاد والباقي من إخوته بعد رحيلهم عن دنيانا. وقد عرفته شخصيا في عام 2014م أثناء انعقاد الندوة الكبرى التي أقيمت في محافظة أسوان بمناسبة مرور 50 سنة على وفاة عمه الاستاذ عباس محمود العقاد، وكتبت عن هذه الندوة التاريخية مقالة نشرت في مجلة المنهل، وكان يرافقني في تلك الرحلة الإخوة مع حفظ الألقاب: محمد الربيّع، وعائض الردّادي، وعبد الله الحيدري.
وقد التقيت الأخ عبد العزيز مرة ثانية - دون موعد مضروب - في مدينة جدة، ثم كان اللقاء الثالث والأخير حينما رتبت معه موعدا لزيارة بيت عمه عباس العقاد في مصر الجديدة ؛ إذ التقينا في حدود العاشرة صباحا، ثم اصطحبني إلى بيت الاستاذ العقاد، الذي كنت أحلم بزيارته منذ أن وقع في يدي كتاب «في صالون العقاد .. كانت لنا أيام» للأستاذ أنيس منصور، ولكن الأقدار لم تسمح بهذه الزيارة إلا أثناء حضوري معرض القاهرة للكتاب في (يوبيله الذهبي) في يناير 2019م.
والأخ عبد العزيز أكمل تعليمه حتى استطاع أن ينال شهادة الهندسة، ثم تقاعد من عمله، وليست له علاقة بالأدب، ولم يكن أديبا مثل شقيقه عامر العقاد، الذي استطاع إعادة طباعة معظم كتب عمه العقاد، وأصدر بعض الكتب المهمة مثل كتابه القيم «لمحات من حياة العقاد المجهولة» وأيضاً جهوده الطيبة والحثيثة في استمرار ندوة العقاد سنوات طويلة بعد رحيل صاحبها، لذلك حينما توفي عامر العقاد عام 1985م كتبت إحدى الصحف المصرية تقول: الآن مات عباس العقاد.
ولا ننسى أيضاً جهود الاستاذ عبد العزيز في الاحتفال بالذكرى السنوية للعقاد في مسقط رأسه في أسوان، وفي استقبال من يرغب من محبي الاستاذ العقاد لزيارة بيته في القاهرة، فلقد كان يتحلى بدماثة الخلق ولين الجانب.
وقد أخبرني أنه عندما أصدرت مجلة نصف الدنيا - مجلة أسبوعية تصدر عن مؤسسة الأهرام - عددا خاصا عن العقاد في نوفمبر عام 2000م، رحب كثيرا بطلب المجلة وزودها بعدد كبير من الوثائق والصور النادرة - على سبيل الإعارة - ولكن للأسف مات ولم يستطع أن يستردها من المجلة!
أعود بعد هذا الاستطراد إلى بيت العقاد الذي سررت كثيرا بزيارته، وصعدت درجاته كما صعدها العقاد، وتذكرت كلامه وهو يقول عن نفسه: «وهذا المسكن قد صعدت سلالمه ثلاثا ثلاثا،ثم صعدتها اثنتين اثنين، ثم أصعده درجة على غير عجلة ولا اكتراث».
والحقيقة أن البيت شيد على الطراز البلجيكي الجميل، ويمتاز بتصميمه الكلاسيكي الرائع، ولكنه - للأسف - متداعٍ وآيل للسقوط، وغير صالح للسكن، وقد كانت الكتب سببا في بقاء العقاد في هذا البيت أكثر من 30 عاما، وبقي على إيجاره القديم - 3 جنيهات- حتى يومنا هذا، رغم تغير الملاك وارتفاع أسعار الإيجارات!
وهالني وأنا أتجول في شقة أو بيت العقاد أن تكون بهذه المساحة، وازدادت دهشتي حينما رأيت صالون العقاد الذي كان يستقبل فيه زواره ومريديه، وكيف استطاع أن يستضيفهم في هذا المكان الضيق، ولكني أرجح أن أغلبهم كانوا يستمعون إلى الندوة وهم وقوف.
وقد طاف بي الأخ عبد العزيز على غرف الشقة وممراتها، ورأيت الجدران جرداء مخيفة، فلا لوحات فنية معلقة لكبار الفنانين التشكيليين مثل صلاح طاهر، وأحمد صبري، ولا رسومات لبعض مشاهير الأدب، ولا أدري أين ذهبت تلك اللوحات والرسومات الجميلة التي كانت تزين جدران شقة العقاد في حياته.
ورأيت الشرفة التي سقطت مؤخرا على شقة العقاد، وأحدثت بعض التلفيات مما يهدد شقة العقاد والمبنى بالسقوط، عدا ما تسببه مواسير المجاري المتهالكة من تآكل أساسات المبنى، وقد أحسن الورثة صنعا عندما انقذوا كتب العقاد باللغة الإنجليزية وشحنوها إلى متحف أسوان، قبل أن تتعرض للتلف، أما كتبه باللغة العربية فقد رأيتها في مبنى الهيئة العامة الكتاب، بجانب مكتبتي: بنت الشاطئ، والمؤرخ عبد الرحمن الرافعي، وأغلب مجموعات مكتبة العقاد مجلدة وبحالة جيدة، وقد علمت من أحد المسؤولين أن الهيئة العامة اشترتها من الورثة بعد وفاة العقاد بمبلغ 5000 ج!
وقبل أن أغادر البيت وينتهي وقت الزيارة ألقيت نظرة من بعيد على بيت العقاد من الخارج، فربما تكون هذه الزيارة هي الزيارة الأخيرة، قبل إزالة المبنى الذي كان يعيش فيه عملاق الفكر عباس محمود العقاد، وفيه ألف وأنتج معظم كتبه وأشهرها.
** **
- سعد بن عائض العتيبي