من المعلوم أن اللغة الإسبانية من أكثر اللغات الأوروبية احتواء للمفردات العربية. ولا غرو، فقد مكث العرب في إسبانيا زهاء ثمانمئة عام، وحتى بعد إنهاء إسبانيا الحكم العربي فقد بقي كثير من العرب الذين استطاعوا إخفاء دينهم ولغتهم، أو الذين ضحوا بهما واندمجوا في المجتمع الإسباني.
فكان لا بد أن يتأثر الإسبان - لا سيما الأندلسيين - بالعادات والتقاليد العربية، ولا بد أن يحاكوا العرب في أشعارهم وأغانيهم.
وفي هذا البحث الذي أعدته الأستاذة الدكتورة منى ربيع بسطاوي - الحائزة على الدكتوراة من جامعة غرناطة - تقف بنا على نماذج من إبداع الشاعر الإسباني الغرناطي (فريدريكو غارسيا لوركا) يتجلى فيها تأثره بالشعر العربي.
بدأت الدكتورة منى بحثها بمقدمة تناولت فيها مراحل حياة لوركا وتأثير نشأته في حياته وأدبه. وكيف أنه ظهر في عصر اتسم بنهضته الأدبية الهائلة، حتى إنه يعد عصراً ذهبياً ثانياً بعد العصر الذهبي الأول الذي يوافق القرنين السادس عشر والسابع عشر الميلاديين.
وتشبهه في نبوغه - رغم كثرة الشعراء - بالمتنبي في عالمنا العربي؛ إذ كان أقران لوركا من الشعراء المعاصرين له من أعظم شعراء إسبانيا مثل: بدرو ساليناس، وخيرار دو?جو، ورفائيل ألبرت?، وغيرهم.
وتعزو ما بلغه الشاعر الغرناطي من مكانة إلى القيمة الفنية والإنسانية لأشعاره، وإلى موته المأسوي خلال الحرب الأهلية الإسبانية.
الإشراقات العربية في شعره:
في مقابلة أجراها الصحفي الإسباني مينديث دومينغيث عام 1931 مع لوركا يقول: «إن لوركا يؤمن بالعروبة. إنه عربي أكثر منه أندلسياً».
ويصف لوركا الحالة التي تعتري المرء، وهو في جبال سييرا نفادا بقوله: «إن المرء يشعر وهو في وسط سييرنفادا أنه في قلب إفريقيا».
وسأله رسام الكاريكاتير باجاريا Bagaria في سنة 1936م قبيل وفاته؛ في حوار: «هل ترى أن تسليم مفاتيح غرناطة كان عملاً موفقاً؟ (يقصد تسليم آخر ملوكها أبي عبد الله مفاتيح المدينة للملكيْن الكاثوليكيين) فردَّ عليه: بل كانت لحظة مشؤومة، وإن كانوا يرددون عكس ذلك في المدارس. لقد فقدنا منذ تلك اللحظة حضارة جديرة بالإعجاب. فقدنا شعراً وملكاً وعمارة وفنًّا ورهافة حس لا مثيل لها في العالم، لكي يتحول بلدنا بعد ذلك إلى مدينة فقيرة جبانة، بلد تضطرب فيه أسوأ البرجوازيات الإسبانية».
لهذا لا تستبعد الباحثة أن يكون والد لوركا من من أعقاب الموريسكيين العرب الذين تنصروا بعد سقوط الإمارة العربية في الأندلس.
وقد ذهب كثير من النقاد والباحثين إلى أن لورکا تأثر بالشعر العربي الأندلسي خاصة والمشرقي بصفة عامة، على رأسهم المستشرق الإسباني (إميليو غرسية غومث) الذي ذكر أن لورکا «قد أبلغه أنه ألف «ديوان التماريت» الذي يضم مجموعة من الغزليات والقصائد تكريماً لشعراء غرناطة العرب.
وتؤكد الباحثة على أن لوركا قرأ ما كتب عن الشعر العربي، وترجم إلى الإسبانية، كما اطلع على الشعر الفارسي، فقد ذكر عدداً من شعراء المشرق؛ مثل الشاعر عمر الخيام وحافظ الشيرازي، واستشهد بشعرهم. وكان مرجعه في ذلك كتب (أشعار آسيوية) Poesias Asiaticas، وصرح بهذا حين قال: «شعرت بعاطفة جياشة حين قرأت الأشعار الآسيوية التي ترجمها (غرسيه ماريا دي نابا) ونشرها في باريس عام 1839 . وتضيف الباحثة: أما عن علاقته بالشعر الأندلسي فربما ترجع إلى اطلاعه على كتاب (شعر العرب وفنهم في إسبانيا وصقلية) للألماني (أدولفو فيديريكو دي شاك) الذي ترجمه إلى الإسبانية (خوان باليرا).
ومما يدعم هذا الرأي ما ذكره لورکا في معرض حديثه عن ديوان الغناء العميق، إذ يقول: «حين تبلغ الأغنية الأندلسية حد الألم والعشق تتآخي في التعبير مع أبيات شعر العرب والفرس الرائعة».
ويواصل: «إن موضوعات التضحية والحب العفيف بلا هدف، والخمر، نجدها لدى شعراء آسيويين رائعين». ويستشهد بالشاعرين سراج الدين الوراق، وابن زياد.
ويبدو أن قصائد ديوان (التماريت) هي أكثر النماذج وضوحاً لتأثر لوركا بالشعر العربي. يتضح هذا من عناوين القصائد فهي إما أن تبدأ بكلمة (غزل) العربية Gacel وإما بكلمة (قصيدة) العربية أيضا Casida.
وتعزو الباحثة تأثر لوركا ورفاقه بالشعر العربي لظهور مذهب الحداثة في مطلع القرن العشرين في إسبانيا وأمريكا اللاتينية، إذ كان من أبرز سمات شعراء هذا المذهب التغني بالشرق وروائعه، فأكثروا من استخدام الكلمات ذات الأصل العربي، وقد تركوا بصماتهم على من لحقهم من الشعراء. ومن أبرزهم (مانويل ماتشادو)، وهو أول من استعمل كلمة (الدفلي) مع قلب الحروف Adelfos، وقد أكثر الشعراء الإسبان بعده من استخدام هذه اللفظة التي ترمز للمرارة والألم، وتستخدم رمزاً للحزن العميق تحت ظاهر بهيج، فهي زهرة جميلة ذات ألوان متعددة، ليس منها السواد، إلا أن لوركا اتخذ السواد لوناً لها إزاء موت حبيبته. يقول في قصيدة (بركة صغيرة):
نظرت في عينيك
وفكري في روحك:
دفلى بيضاء
نظرت في نفسي
وفكري في ثغرك:
دفلى حمراء
نظرت إلى نفسي في عينيك
ولكنك كنت ميتة:
دفلى سوداء
وكان (خوان رامون خمينث) أقرب الشعراء الإسبان إلى الشعراء الأندلسيين العرب في أسلوبهم، وفي صورهم واستعاراتهم، وفي رفاهة حسهم تجاه الأشياء الرقيقة الموحية كالوردة، والعندليب والينبوع، وكان لوركا معجباً به يقلده في مقتبل شبابه.
أما (فرناندو بيالون) فكان أكثر الشعراء الإسبان اعتزازاً بأصله العربي، وكان تأثيره في لوركا واضحاً أيضاً.
وتعجب الباحثة من أن لوركا لم يعترف كما اعترف مجايلوه بتأثير الشعر الأندلسي في أعماله الشعرية؛ في حين سجل تأثره بالشعر الياباني (الهاي - کاي) في مجموعة قصائده المعروفة باسم (أندلسيات).
وتورد الباحثة بعد ذلك العديد من الأمثلة على تأثر الشعراء الإسبان؛ ولوركا تحديداً بالشعراء العرب، ليس على مستوى اللفظ؛ بل حتى بتناول العادات العربية كحرق البخور ليضمنها بعض قصائده الشعبية. هاهو يقول:
تحت المهد المعطر بالبخور
تبدين غافية
كانت عينا ثور تنظران إليك
وكانت سبحتك تتساقط مطرا
ومن الشواهد المتنوعة التي أوردتها الباحثة لتأثر لوركا بالشعر العربي، النص النثري التالي: «أما غرناطة فتقوم على جبلها وحيدة منفردة منعزلة، وكأنما لا منفذ تطل منه على العالم إلا من أعلى من قبل السماء والنجوم». وتعرض نظيره من شعر ابن زمرك:
به القبة الغـراء قل نظيرها
ترى الحسن فيها مستكنا وباديا
تمد لها الجوزاء كف مصافح
ويدنو لها بدر السماء مناجيا
وتحدد الباحثة أكثر مظاهر الإشراقات العربية عند لوركا في كثرة استخدامه للأقفال المتكررة، التي تشبه ما نعرفه في الموشحات الأندلسية. نجده في قصيدة (بركة: أغنية أخيرة) يكرر السطر الشعرى «ها قد أقبل الليل» بعد كل بيتين:
ها قد أقبل الليل
أشعة القمر
تطرق سنديان المساء
ها قد أقبل الليل
شجرة كبيرة تتدبر
بكلمات الأغاني
ها قد أقبل الليل
وقد حاول لوركا في ديوان (الأغاني الغجرية) أن يحيي (الرومانثة) Romances وهي القصائد ذات الطابع الملحمي أو القصصي أو الوجداني التي شاعت في القرن الخامس عشر، وكانت تنشد على آلة موسيقية مع رقصات جماعية.
وتعد الباحثة من الظواهر الأخرى في شعر لوركا التصغير الذي كان شائعاً في الشعر الأندلسي، وبخاصة في الأزجال، وظاهرة الازدواج في النظرة إلى الجنس، ولعله تأثر بالغزل بالمذكر في الشعر العباسي.
وتضيف الباحثة إلى الملامح العربية الشائعة ظاهرة التوجس من الموت، نحو قوله:
حين يحل بي الموت
ادفنوني مع قيثارتي
تحت التراب
ادفنوني بين شجر البرتقال
وأغصان النعناع
وتذكِّرنا الباحثة ببيت الشاعر العربي أبي محجن الثقفي:
إذا مت فادفني إلى أصل كرمة تروي عظامي بعد موتي عروقها
ثم تعرض المؤلفة للشعر الغزلي، وتوازن بين الشعرين العربي واللوركي، وتشبهه في شعره القصصي بعمر بن أبي ربيعة.
** **
- سعد عبد الله الغريبي