يقول أمبرتو إيكو «إن السرد يشبه الغابة»، فبأي معنى يمكن أن تُفهم تلك العبارة؟
لعلّ من الصّواب أن نشير ابتداء إلى الخلفيّات الذي قِيلت فيها هذه المقولة، ففي كتابه الشهير المعنون بـ(6 نزهات في غابة السر) (1)، يقدِّم إيكو لنا «تصوراً أصيلاً للرواية وقضاياها استناداً إلى مفهوم الغابة بإيحاءاتها المتنوعة. فالغابة فضاء مفتوح ومغلق، ساحر ومخيف، منفر وغاو، بسيط وشديد الكثافة، قد تتسلّل إليه أشعة الشمس، وقد تحجبها عنه الأشجار الكثيفة. وبطبيعة الحال، فإن الأمر يتعلّق باستعارة تحيل على العوالم التخييلية التي تبنيها الرواية وفق استراتيجيات متنوعة يمكن اختزال بؤرتها المركزية في العلاقة بين محفلي الإنتاج والتلقي، والمؤلف والقارئ»(2).
وذلك أنّ الاقتباس المذكور قبلاً لم يكن من كلام صاحب المقولة، ولو قالها بهكذا لسقط كلُّ تأويل؛ وإنَّما هي بحروفها من نتاجات مترجم الكتاب، وتساوقًا مع ذلك؛ يصحّ على الأقل من وجهة نظري أن أقول: إنَّ أمبرتو إيكو بمقولته السّاخنة تلك تستهدف قامة القارئ وذهنية المتلقّي بحثًا عن المضمر، والمبهم، والغامض، والمستتر، والمسكوت عنه،
«فالقارئ ليس مدعوًّا إلى قراءة الرواية وتحديد معناها فحسب، إنه مطالب أيضا وأساسا بالكشف عن استراتيجيات الذات التي تقف وراء هذا البناء التخييلي الذي يعج بالحقائق ذاتها لا تبنى خارج الذات التي تستهلك النص وتستوعب دلالته»(3).
وبهذا يكون أمامنا طريقان للتجوال داخل الغابة «إما أن نسلك طريقا واحدا للخروج بسرعة أو طرقا متعددة نتسكع من خلالها لنعرف كيف تتكون الغابة، ولماذا يسمح لنا بسلك بعض السبل، وتسد في وجوهنا سبل أخرى»(4).
إنَّ إيكو بهذا يقدِّم للقارئ اختيارات معقولة داخل الغابة السَّرديَّة، وهذا العرض لا يستحقه إلاَّ قارئان سبق وتعرض لهما إيكو في كتبه السَّابقة، وهما قارئان لا ينفصلان عن بعضهما البعض، مع تفهمنا لتنوع القرَّاء، حتّى عدهما زوجين؛ وهما «القارئ الفعلي هو أي كان، نحن جميعاً. أنت وأنا ونحن نقرأ النص. فهذا القارئ قد يقرأ بطرق مختلفة، فلا وجود لقانون يفرض عليه طريقة معينة في القراءة. وعادة ما يتخذ النص وعاءً لأهوائه الخاصّة. وهي أهواء مصدرها عالم آخر غير عالم النص، ولا يقوم النص سوى بإثارتها بشكل عرضي»(5)، في المقابل هناك القارئ النموذجي الذي يصفه إيزر بأنَّه «يتصرف بطريقة تجعل النص يكشف عن روابطه المتعددة الممكنة.. وهذه العلاقة ينتجها الذهن الذي يقوم ببلورة المادة الأولية للنص»(6)، وهو أيضاً، «مجموعة من التعليمات النصية التي تبدو على سطح النص إثباتات أو إشارات أخرى..»(7)، أو «إنه قارئ نوعي يتوقعه النص باعتباره محفلاً للتعاون(8)، أو هو «القارئ الذي عليه أن يحترم كلّ قواعد اللعبة»(9)، أو إنَّه القارئ التَّخييلي القارّ في داخل النَّص الذي يخرج من رحم النَّص على الرّغم من أن وجوده وجود شبحي(10).
وتساوقاً مع ذلك؛ فإنَّ على القارئ وهو يسير في هذه الغابة السَّردية بعوالمها المتعدِّدة والمتنوّعة والمهولة في ضوء ما أسماه إيكو «النشاط التعاضدي»(11).
وذاك أولاً؛ أمَّا ثانياً، فإنّ إمبرتو إيكو كان على حقٍّ عندما أكَّد في أكثر من كِتاب له أنَّ هناك نوعين من القراءة، قراءةٌ يكون القصد منها استعمال النَّص واستخدامه لخدمة أغراض ومقاصد في نفس القارئ، وهي القراءة الاستعماليَّة، وهناك قراءة يكون هدف القارئ فيها هو تأويل النَّص واستثمار كلِّ الإمكانات لتفعيل النَّص وإثرائه دلاليّاً، وهي القراءة التَّأويلية(12)؛ لأنَّ النَّص عند إيكو «يتميّز عن سواه من نماذج التعبير بتعقيده الشديد بما لا يقاس، أما علة التعقيد الأساسية فتكمن في كونه نسيج (ما لا يُقال)، وذلك يعني الذي ليس ظاهراً في السطح على صعيد التعبير، على أن (ما لا يقال) هذا هو ما ينبغي أن يفعل على مستوى تفعيل المضمون، وهكذا يكتسب نص ما -بطريقة أظهر من أيّة رسالة أخرى- حركات تعاضدية فاعلة وواعية من جانب القارئ»(13)، إنَّ النَّص نسيج فضاءات بيضاء، وفرجات ينبغي ملؤها، ومن يبثه يتكهن بأنَّها فرجات سوف تملأ(14)، أليس النَّص آلة كسولة يطالب من قارئه تعاونا كبيرًا؟!(15).
... ... ... ... ...
(1) عنوان الكتاب في أصله مجموعة محاضرات قدمها أمبرتو إيكو في جامعة هارفارد عام 1993م، وحملت بعدئذ عنوان (ست جولات في الغابة التخييلية/ 1994م)، في طبعتها الإنجليزية، ثم (ست جولات في غابة الرواية وفضاءات أخرى/ 1996م)، باللغة الفرنسية، أما في العربية فكانت بذات العنوان أعلاه أي بعد مضي أكثر من عشر سنوات على الأقل، وصدرت عن المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 2005م، وترجمه سعيد بنكراد.
(2) أمبرتو إيكو، ست نزهات في غابة السر، ترجم: سعيد بنكراد، (المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 2005م)، ص:7.
(3) المرجع السابق، ص: 11.
(4) المرجع السابق، ص: 23.
(5) المرجع السابق، ص: 28
(6) المرجع السابق، ص: 38.
(7) المرجع السابق، ص: 39.
(8) ينظر: المرجع السابق، ص:28.
(9) المرجع السابق، ص: 30
(10) ينظر: المرجع السابق، ص:40.
(11) سعيد بنكراد، النص السردي نحو سيميائيات للأيديولوجيا، دار الأمان: الرباط، 1996)، ص:50.
(12) ينظر: إمبرتو إيكو، القارئ في الحكاية، «التعاضد التأويلي في النصوص الحكائية»، ترجمة: أنطوان أبو زيد، بيروت،(الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 1996م)، ص:137- 140- 141.
(13) إيكو، القارئ في الحكاية، مرجع سابق، ص: 62.
(14) ينظر: المرجع السابق، ص: 63.
(15) ينظر: إيكو، ست نزهات في غابة السرد، مرجع سابق، ص: 87
** **
- د. ساري محمد الزهراني