توجد قوة في أعماقك تدعى «التخلي» ماذا لو أدركتها وتأملت حالك بعدها ستجعلها مسارًا لك في قاموس اتجاهاتك في دفة هذه الحياة، هي قوة صامتة تغذي سلامك النفسي بشكل وديع تتلمسه في خفتك حين تنصت لروحك التي حمَّلتها أثقالاً جثت على كاهلها وكنت آنذاك غافلاً عن سماعها، نعم فذلك الثقل يُسمع من ثقله بشكل حسي ملموس يعبّر عن مدى إجهاشه لهشاشتك.
قد يتبادر إلى الذهن للوهلة الأولى أن هذا المصطلح يقصد به حرفيًا التخلي بمفهومه العام الذي يبرز الأنانية وكف يد المد والامتداد عن من نحظى بقربهم وامتدادنا الوثيق بهم ،بل هو أنكى من ذلك على الذات وليس على الآخر حقيقة؛ لأن نأيك عن مساحة التأمل في حقها سيعطبك عن الاتصال تباعًا بطبيعة المآل عن الآخر وصلتك به، وعن وفرة العطاء التي تصلك بأرواحهم. هو شعرة بين الانفصال عن الذات وإضمارها باستتار يجحفها حقها في نيل مساحات هواء نقية تحفظ لها حياة صحية غير سامة وبين الانصهار في احتضان الكفوف والانغماس والانفراط في تلبية حاجات تقع ضمن دائرة صنعتها بنفسك وحبست بها نفسك، وبالتالي تعلت على حقك بإيجاد مخرج صغير يحفظ حق ذاتك بها. يساند هذه البلورة المحكية نص للفيلسوف الأمريكي رالف والدو إمرسون الذي دارت معظم فلسفته حول الخيرية والذاتية والفردية الحرة يقول فيه إن «كل الأخطاء التي ارتكبتها في حياتي نبعت من رغبتي في التخلي عن ذاتي، ومحاولاتي لأرى الأمور من خلال منظار غيري». وأنت حين تُضمِّن كل فكرة برؤية جمعية، دون أن تجعل عقلك فاصلاً بين كل عين ونظرتها وعقل وفكرته، ستتعجل على نفسك بأن تكون مسخًا متشكلاً بثقافة التمحور حول رؤية معينة محصورة لا يحكمها خاصية ولا اختصاص تحدده رؤيتك وعينك أنت وما عايشت بثقبها وحدودها؛ فكل تجربة معاشة لها غيٌ يعمه فيها صاحبها، وهذه التجربة كفيلة بصقلك وتفرد رؤيتك الخاصة فيها.
التخلي قوة إن أدركت استحقاقك في عدم الأذية لذاتك، قوة في مواجهة كل نعم أبدلتها بلا، وكل لا أبدلتها بنعم، في كل موقف أذعنت فيه لشرارة سوء تظهر من أحدهم لكنك التفت للجهة الأخرى متنحيًا عنها ثم توجهت للباب الذي لا يفتح من بعدك. في انفراط النوايا التي لا تمت لنورك بصلة، فأطبقت عينك عن ظلامها. في الصمت المميت الذي لا يتجاوز قفصك الصدري، وعن تنازلاتك المنطوية تحت إمرة التقدير والاحترام. عن عبثك الدائم في نفسك العزيزة بانشغالها المفرط بالعزيز من حولك وتركها جانبًا على رف عتيق في أدنى زاوية تشيح بها عن ذاتك والتي ستضعفك لاحقًا عن احتضان عزيزها بعد حين، لأنك حملتها وِزر التهاون حتى ذبلت عن تقديم أدنى لمسة بيدها أن تحييك فتحييهم. عن ابتلاعك لردود صادمة توقف كل متجاوز عند حده، لكنك اكتفيت بإيماءة باهتة تؤجج الهوة بينك وبين صلابتك.
إن التخلي بمفهومه الروحاني المجانس للسعادة، والذي أدركه أيضًا عالم الروحانيات جبران خليل جبران في رؤيته الخاصة هو أن السعادة تكمن في التخلي عن المزيد، لا الحصول على المزيد. التخفف من الأعباء التي يخلقها التمسك بكل ما هو مثقل على كتف أيامك الباقية هو حقٌ أصيل لا بد أن تجعله منهاجًا في حياتك، لإزالة كل ما يؤدي إلى انفصالك عن الالتحاق بسماويتك الزمانية والمكانية، وعن الانسحاب من رهانك في أن تكون متساميًا عن ما يفصلك عن تأمل المحسوسات واللامحسوسات، وعن كل ما يخولك لأن تكون إنسانًا صالحًا للحياة البشرية بمعناها الفطري.
** **
- أشواق بنت محمد الوهيد
ASHWAGALWHEID@GMAIL.COM