المرشد السياحي يناديها: الآثار! لماذا تديرين ظهرك للآثار؟ كانت تتأمل فضاء واسعاً صحراوياً. استفسرت عن البناء الصلب البنيان المشيد، ذي الحيطان العالية الغريبة، كأنه قلعة من صخر! رد عليها بكلمة: نعم، كناية عن «ماذا تقولين عن ماذا تتكلمين؟!» وفارقها يحدث الفوج السياحي الأجنبي.
اعتذرت إلى المرشد السياحي في اليوم التالي لا تريد مرافقة الفوج السياحي في الحافلة، ستنطلق سائحة في الأرض تكتشف الأسرار التي توحي بها روحها وليس ما يُحدِّثُ به التاريخ. خرجت من الفندق قبيل الفجر، في طريقها إلى مكان الأمس والمبنى الذي أنكره المرشد السياحي سمعت هزيزاً أو ما يشبه غليان القدور من جهة السماء، رفعت رأسها، لا أثر للسحاب ولا للبروق والرعود، السماء زاهية بالنجوم، والجو معتم بزرقة لا يشوبها بيضاء الغيوم، كلما اقتربت زاد الصوت وأصبح أكثر وضوحًا.
في هدوء قاتم، ورائحة دماء طرية، وعالم غيبي في مكان قصي، بعيد عن الكون الهادر؛ سردابٌ عفن حالك، قَفْرٌ من الأكسجين والهواء والشمس، يَتَأَدَّى إلى قبو مستطيل فيه صفان من السرر الحجرية المرتفعة، في كل سرير أربع حلقات في الجوانب للأطراف، وحلقة في الوسط للرأس، ثخينة بالدم المتخثر القديم على سطحها وجدرانها، سائلة بالمتدفق الجديد يجري من أخاديد الأسواط الحافرةِ جدرانَها إلى جدول طويل بين صفي الأسرة، عمقه الشبر وعرضه عشرة سنتمترات وطوله يصل حيث حفرة مقببة ومقعرة من أعلى في نهاية السرداب مكونًا بركة حمراء. ترى مَن يشرب من هذا المَعِين ويتغذى عليه ليبقى على قيد الحياة؟! عندما تلفظتْ بهذا السؤال عوت حوائطُ القبو العطنة، الآسنة بالحموضة، الملطخة بالدماء الطازجة، وارتجت من تخبيطات الأرواح المحبوسة فيها تريد الانعتاق والانتقام.
تجسيد
سمعتْ صراخَ الجيران بعد منتصف الليل، ثم عويلا استمر إلى ما قبل الفجر، بعد ذلك سمعت انتحابا شديدا في الشارع، ثم عكس زجاج الشرفة أضواء سيارة الإسعاف.
عندما فَتَقَ بنفسجُ الفجرِ رَتْقَ سوادِ السماء سمعت من مكمنها همهمات، وهمسات تهليل واسترجاع وحوقلة، سمعت أقاويل تتحدث عن الطفل الذي مات. أي طفل ذاك؟! خافت أن تسأل صاحب مغسلة الملابس الواقعة في الدور الأول من العقار الذي خرجت منه الصيحات، خافت أن تسأل صاحب الصيدلية الواقعة على رصيف العمارة، خافت أن تسأل محل الأجهزة الإلكترونية المقابل للمبنى. لم تسأل الأطفال الذين يلعبون في منعرجات الحارة. خافت من ماذا؟ خافت من الحزن الذي سوف ينتابها لو علمت بموت طفلٍ، أي طفل كان! فكيف بطفل الجيران الذي رأته مرارًا يلهو، وينادي، ويطرق بابهم مرسلا من لدن أمه، وأحيانا يتصادمان في تقاطعات الشارع وهو يعدو خلف الأطفال.
أفل عمرٌو، البهاءُ، ذو الثماني الشمعات، صَلصال العِناد والشقاوة، طينة البراءة الراشحة بماء الطهارة. لم تسأل عن سبب وفاته، ستعرف كما عرفت خبر موته من غير سؤال، تتمنَّى ألا تعرف، لكنها سمعت من الأفواه القريبة والبعيدة أسبابا متعددة؛ زلقت قدمه؛ ففُضِخَ رأسه... منذ فترة وهو معتلّ بمرض مُودي... اختنق بالغاز؛ هب هواء وأطفأ شعلة الموقد... سِلْكُ كهرباءٍ سَمِلٌ ويدُه المبللةُ تَمَاسَّا؛ فانتفض بدنه وزهقت روحه... غَصَّ بالحلوى وعلقت بحلقه لثوانٍ؛ منعت تدفق النفس. تذكرت قصة الطالبة التي شرقت -في جميع المدراس الابتدائية- بماء البرَّادة وخَرَّتْ صريعة في حوش المدرسة.
انقضتْ ذِكراه بعد مرور سنة على موته، لا أحد في الحي يتذكر ذلك الطفل إلا هي حين تصادف الأم وقد غدت واهنة، كامدة تخلَّت عن مساحيق التجميل، صامتة حتى حين تلقي عليها السلام لا ترد، تمر دون أن تنظر إليها. أين مرحها وأُنْسها الأليف؟! انقطعت البشاشة من وجهها الصبوح، وقد أضحى ضاويًا، تَرى في قسماته تصدعاتِ قَرْعِ المحنةِ جدرانَ روحِها تجاهد لكي ينفجر احتقان الدموع واحتباس الآهات.
توقفت السيارة عند مسجد كبير وسط المدينة التي تبعد عن البلدة التي تعيش فيها عشرات الأميال. دخلت باحة المسجد الرحبة، حاولت تستوقف طفلين في العاشرة يتراكضان ويرشان على بعضهما الماء، تسألهما عن باب المسجد، لكن جلبتهما تمنع بلوغ هتافها بهما، سمعت انصباب ماء، تلفتت ولحظت طفلا في سنهما يتوضأ من الحنفيات ذات الأحواض الرخامية الأرضية، فوجَّهت إليه الاستفهام: أين باب المسجد؟
كان يغسل قدمه اليسرى فلما فرغ منها أدار محبس الصنبور واستدار.
عمرو... عمرو... تقولها بدَهَشٍ وحِيرة غير مصدقة!
تقدم وهي ما برحت تردد اسمه.
المسجد يقفل ساعةَ انتهاء الصلاة، قالها لا يكترث لمعرفتها إياه، ثم تابع: تعالي!
تبعتْه إلى زاوية خلفية في باحة المسجد مفروشة بالسَّجَّاد ولها رواق يقي من الشمس وسرادق خشبي صغير يستر المصلي، توقف وأشار: هنا!
قالت: ألا تصلي معي رأيتك ت توضأ!
هناك... سأصلي هناك، قالها وهو يستدير مبتعدًا.
نادته: عمرو! عمرو!
لم يلتفت ولم يجب النداء!
زعقت به: أمك! أمك يا عمرو! عد إلى أمك! أمك تحن إليك شديدا، أمك تعاني فقدك، عد إليها لا تتركها وحيدة!
أسكتها قولٌ مؤنِّبٌ لرجل طويل جدا يلبس ثوبا واسعا وعلى رأسه عمامة مسدولة: عمرو أمه ميتة. ثم أكمل بعد أن خبا انفعاله: منذ سنة وهو يعيش عند أخواله؛ انتقل إلى العاصمة بعد موتها بذبحة صدرية.
ها هي ذي بعد تسعة أشهر تعود إلى المسجد وتدخل باحته، لكن هذه المرة باب المسجد مفتوح يتوافد منه دَهْمٌ من الناس لتأدية صلاة الفجر، انتظرت حتى تلوح الزرقة في السماء لتنير سُدْفة الباحة لعلها ترى عمرا يخرج إليها بعد الصلاة، ارتفعت الشمس وحان موعد زَلْجِ الباب، ولم يخرج. عندما همت بالخروج من بوابة الباحة الحديدية أقبل الرجل الطويل جدا الذي رأته في المرة السابقة يمسك بخرطوم ماء ينهدل من إحدى الحنفيات، ويتجه نحو حوض زرع في الباحة، لم تنتبه له في المرة الأولى، فيه نخلة وفسيلة تتبسَّق، وبدأ يسقي تربتهما؛ فرفرفت حمامة فوقهما، جاوبها زُغْلُولُها يُقلِّد حركةَ جناحيها، تبسمت للنخلتين وللحمامتين، وتبددت الأوهام، وأخذتها الذاكرة إلى ما قبل السنتين، إلى العمارة المواجِهة مسكنَها، إلى فجيعة تردُّد صرخات الاستغاثة منتصفَ الليل، إلى صدمة خراطيم سيارات الإطفاء وهي تنهي استعراض لهب النيران المنعكس على زجاج شرفتها وتطفئ نبض قلبين، أمّ وابنها. تَطَلَّعت الرجلَ وودَّتْ لو تشكره عن ذلك اليوم البعيد حين استنقذها من هوج الأطفال وضجيجهم ومن مذلة ملاحقتهم بالسؤال، يقينًا يتذكَّرها لأن الوجوه تَلصَق بأماكنها ولا تركب قوافل ارتحال الأرواح.
** **
- سعاد فهد السعيد