كتبت مقالاً بعنوان (عرام السلمي.. ابن الحجاز العارف بمواضعه وسُكّانه) نُشر في هذا الملحق الأغر في يوم الجمعة/السبت 17/ 18 صفر 1443هـ الموافق 24/25 سبتمبر 2021م، ذكرتُ فيه ما جادت به المصادر عن عرّام بن الأصبغ السُّلمي وما يُستلهم من رسالته الشهيرة: (أسماء جبال تهامة وسكانها وما فيها من القرى)، وأردتُ في مقالتي تلك أن أُثبت حقيقتين رئيستين؛ (الأولى): أنّ عرّامًا السلمي ابنُ الحجاز، به وُلد ونشأ، وعَرَفه معرفة الخبير قبل أن يلتحق بابن طاهر في خراسان، و(الأخرى) أنّ عرّامًا هذا عالمٌ بالمواضع ولغة قومه، ثقةٌ مأمون في روايته.
ثم رأيت في هذا الملحق في عدد الجمعة/السبت الموافق 3/4 ديسمبر 2031م مقالا بعنوان (عرّام السلمي.. الذي قدم خراسان ورُوي عنه في معاجم اللغة والبلدان) لكاتبٍ غرضه نقد مقالي المشار إليه، وسعدت برؤيته ورجوت أن أجد فيه ما ينفع، وما أن تفحّصته حتى خاب ظني، فلم أخرج منه بشيء ذي قيمة علمية، وظهر لي أنّ الكاتب مدفوع بهواه لخلافٍ في المسألة الخولانية والمسألة الأنصارية، ويبدو أنّ نصوص عرّام السلمي لا توافق بعض الأهواء، وأما مقالي الذي ينتقده هذا الكاتب فلُبُّه وأُسُّه إثبات الحقيقتين المشار إليهما، أعني نشأة عرام بالحجاز وأمانته فيما يرويه، ولكن كاتب المقال –هداه الله- لا يعرف الموضوعية والإنصاف، فترك أُسّ المقال ولبّه وتفرّغ للقشور وجاء بطوامّ تدلّ على أنه ليس من أهل البحث العلمي، ولعل من أسباب الخلل ضعفه الظاهر في اللغة.
وهذه تعليقات على بعض ما جاء في مقاله مما يسمح به المقام، أذكرها مرقّمة ليسهل تناولها:
1 - قال كاتب المقال: «ويبدو لي أن د. الصاعدي كتب مقاله من منظور شخصي وليس عمليًّا». لعله يقصد: علميّا. فأقول: هذا قول من لا يدري ما المراد بالمنظور الشخصي، فكيف يكون مقالي من منظور شخصي وهو معتمد على نصوص أهل العلم الذين تحدّثوا عن عرام؟ كالقفطي وياقوت من المتقدمين الذين وقفوا على رسالة عرام تلك ونهلوا منها، وكذلك عبدالعزيز الميمني وعبدالسلام هارون محققَي رسالته، وقد عرفا عرّامًا معرفة تامة، وكذلك من ترجم له من المعاصرين كخير الدين الزركلي في الأعلام، وهل يستطيع كاتب المقال أن يأتينا بقول واحد للمتقدمين يقلل من شأن عرام أو يطعن في روايته أو أمانته وينقض ما انتهيتُ إليه في مقالي؟ فإن لم يستطع فأين المنظور الشخصي المزعوم؟
2 - وقال منتقدًا: «أما البلدان فالذي يظهر لي أنه ليس له اطلاع واسع في معاجمها، وقد فات الصاعدي أنّ أبا إسحاق الحربي في المناسك نقل عن أبي الأشعث الكندي واعتمد عليه وأنّ البكري في معجم ما استعجم نقل عن السكوني واعتمد عليه، وأنّ الحازمي في الأماكن نقل عن أبي الأشعث الكندي واعتمد عليه وأنّ ياقوت (الصواب: ياقوتًا) الحموي في معجم البلدان نقل عن أبي الأشعث الكندي وذكره في مقدمته.. إلخ». ثم قال: «أمّا عرّام السلمي فليس له مؤلّف معروف لا في اللغة ولا في البلدان، إلا ما نُقل عنه بالرواية في معاجمها». فأقول: إن كان هذا الباحث يرى نفسه أكثر اطلاعا مني على معاجم البلدان فليقبل مني هدية لتصحيح معلوماته التي ذكرها عن كتاب المناسك ومؤلفه، فقد رجّح الشيخ حمد الجاسر في مقابلة له مصورة ومسموعة أن كتاب المناسك ليس لأبي إسحاق الحربي (ت 285هـ)، بل لتلميذه القاضي وكيع (ت 306هـ)، وهو كتاب الطريق أو الطرق، وقد ذكرتُ هذا في تغريدة سابقة بتاريخ 25/ 9/ 2021م، ولو اطّلع عليها كاتب المقال لأفاد منها، وأما أبو الأشعث الكندي وابن بشر السُّكُوني فهما أشهر الرواة الذين رووا رسالة عرّام السلمي، وكانا كالجسر الذي عبرت عليه هذا الرسالة وتلقاها عنهما أهل العلم، والعلماء قد يكتفون باسم الراوي لأنه حامل أصيل وأمين للكتاب الذي يرويه في مجالس العلم، ومثل هذا وقع في بعض مؤلفاتهم القديمة. والبكري والحازمي وياقوت وغيرهم يعلمون أنّ عرّامًا هو مؤلف الرسالة، وآيةُ ذلك قول البكري في مقدمة كتابه: «وجميعُ ما أُوردُهُ فى هذا الكتاب عن السّكونىّ فهو من كتاب أبى عبيد الله عمرو بن بشر السّكونىّ، في جبال تهامة ومحالّها، يحمل جميع ذلك عن أبي الأشعث، عبد الرحمن بن محمد بن عبد الملك الكنديّ، عن عرّام بن الأصبغ السّلمىّ الأعرابىّ»(معجم ما استعجم 4، 5) وقوله في رسم رضوي: «قال السّكونى: أملى عليّ أبو الأشعث عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله الكندىّ، قال: أملى عليّ عرّام بن أصبغ السّلمىّ أسماء جبال تهامة وسكّانها، وما فيها من القرى والمياه، وما تنبت من الأشجار»(معجم ما استعجم 655) ومع ذلك تجد البكري يعزو النصوص في كتابه إلى السكوني راوية الكتاب مع علمه بصاحبه، ويعزوها أحيانًا إلى عرّام نفسه، وتجد الحازمي يعزو إلى أبي الأشعث الكندي، وأما ياقوت فيراوح في عزوه بين عرام وأبي الأشعث والسكوني، فإذا قال البلدانيون في مروياتهم عن عرّامقال السكوني أو قال أبو الأشعث فكأنهم يقولون: قال عرّام. فالبلدانيون الذين ينقلون عن رواة عرّام يعلمون أنّ الرسالة له، ولا ينكرون نسبتها إليه، وقول البكري في مقدّمته خير دليل على ذلك، وتجد في كتبهم مثل قول ياقوت: (وقال أبو الأشعث الكندي عن عرّام) (معجم البلدان 3/ 204) وقوله: (ذكر ذلك كله أبو الأشعث الكندي عن عرّام بن الأصبغ السلمي) (معجم البلدان 2/ 93) وهناك أسرار تتصل بالسكوني لا يتسع المقام لذكرها، وبهذا يعلم هذا الكاتب مَن الضّحل ومَن صاحب الاطلاع الواسع على معاجم البلدان!
3 - وقوله: «أمّا عرّام السلمي فليس له مؤلّف معروف لا في اللغة ولا في البلدان، إلا ما نُقل عنه بالرواية في معاجمها»، فأقول: الإملاء عند بعض المتقدمين ضرب من التأليف، يودع المملي كتابه عقول الرجال لا القراطيس، فهم حَفَظة ما يُملي ورواته وشهوده، ولم ينكر الباحثون المحقّقون من المتقدمين والمتأخرين نسبة هذه الرسالة الشهيرة التي حققها الميمني ثم عبدالسلام هارون بعنوان: (أسماء جبال تهامة وسكانها) إلى عَرّام، عن نسخة خطّيّة يتيمة أملى أصلها عرام إملاءً على بعض رواته، ونَقلتُ في الفقرة السالفة نصوصًا عن أبي عبيد البكري وياقوت تثبت أنّ البلدانيين كانوا على علم بأن الرسالة لعرام، ويعترفون للرواة بالفضل في وصول الرسالة إلى إليهم. ثم يفاجئنا هذا الكاتب بعد عدّة أسطر باعترافه الصريح بأنّ الرسالة لعرام أملاها على أبي الأشعث الكندي. ولا تفسير لهذا التناقض إلا التخبّط والاضطراب، وإن كان صاحبنا يريد بالتأليف كتابةَ المؤلّفِ مصنفه أو رسالته في نسخة خطية وأنّ الإملاء لا يعدّ من التأليف فعليه أن يعيد النظر في فهمه.
4 - وقال: «وعرّف الصاعدي بعرّام وأورد ما ذُكر عنه في المصادر، ثم نقل بعض كلام العلماء مجتزأً وغير مكتمل». فأقول: قوله إني نقلت بعض كلام العلماء (مجتزأ غير مكتمل) قول باطل يدلّ على سوء الفهم لمعنى الاجتزاء، فما نقلته لا يعدّ اجتزاء وإنما اكتفاء بالشاهد الذي يُثبت قولي، ولم أترك ما ينقضه أو يُوهنه، وهذا قولي بنصه: «قال عبدالعزيز الميمني محقّق كتاب عرّام: وممّا لا أكاد أقضي منه العَجَب أنّ أحدًا من أصحاب التراجم لم يذكر عَرّامًا. اهـ يريد: أنّ أحدًا لم يذكره بترجمة صريحة، مع أنّه عُمدةُ البلدانيين في الحجاز وتهامة، ومن رواة اللغة الثقات المتقدمين» اهـ فإشارتي إلى خلوّ كتب التراجم من ترجمة لعرام مع صحتها تحتاج إلى نصّ مؤيِّد، والميمني محقق الرسالة خبير بها وبحال مؤلفها، والبحث العلمي يقوم على الإيجاز وليس ميدانا للحطب والحشو ونقل مقدمات النصوص وأطرافها وذيولها مما يفيض عن موضع الشاهد الذي يريده الباحث، وليس في المتروك ما ينقض المراد، وهو هنا تعجب الميمني من خلو المصادر من ترجمةٍ لعرام، فيبطل بهذا ادعاء الاجتزاء.
5 - وفي مسألة مولد عرام ونشأته وجَزْمِ البلادي بأنّه ولد بخراسان ولم يرَ الحجاز ولا مشى فيه قال كاتب المقال: «ثم تساءل الصاعدي: فأين ولد عرام وأين نشأ؟ ثم ذكر رأي علامة الحجاز عاتق بن غيث البلادي –رحمه الله- عن مولد عرام ونشأته، فنقده نقدًا غريبًا غير مبرّر، ثم ذكر أقولا نسبها للبلادي، واستطرد بحديث منمّق عن عرام كعادة أهل اللغة في الثناء والتلميع... إلخ». فأقول: اللغة التي يسخر من أهلها هي مفتاح العقول، وهي الأداة لفهم النصوص، فليته يتعلم من اللغة ما يكفيه ليفهم النصوص على الوجه الصحيح وليكتب بلغة علمية نقية بعيدة عن الركاكة والخطأ في النحو. وأما تشكيكه في نقلي عن البلادي الذي يظهر من قوله: (ثم ذكر أقوالا نسبها للبلادي) فيدل على عدم اطلاعه، فلو راجع مصدري (محراث التراث) للبلادي لوجد ما نقلت، وقد أرشدته إلى رقمي الصفحتين وهما: ص 14 وص 27.
6 - ويحاول كاتب المقال أن يقلل من شأن مرويات عرّام وقيمتها في إثبات سُكنى الأنصار في مواضع متفرقة من الحجاز في زمانه، وقد أثبتُ سُكناهم في بادية الحجاز بعد عصر النبوّة بالأدلة ونصوص العلماء، في بحثي: (نهاية الإيجاز في سُكنى قبائل الأنصار في بادية الحجاز) وقد أشار إلى سكناهم كثير من أهل العلم غير عرّام، رووا عنه من غير نكير أو رووا عن غيره أو قالوا ما يعرفون، ومنهم: السّكوني والكندي والهَجَري ولُغدة الأصفهاني والقاضي وكيع (صاحب كتاب الطريق المطبوع باسم المناسك) والهمداني وأبو الفرج الأصفهاني والبكري والحازمي وابن الجوزي وياقوت ومحمد الحِميري، ويضاف إلى ذلك النقوش الكثيرة التي رصدها الأستاذ محمد المغذوي، وهي محل تقدير الباحثين، وستكون رافدًا مهمًّا لتاريخ بلادنا ومصدرًا لمعرفة ساكني الحجاز في قرون خلت.
7 - وقال: تحت عنوان: نشأته: «لا يُعرف شيئًا (هكذا، والصواب: شيءٌ، بالرفع، نائب فاعل) عن عرام في أول حياته ونشأته، غير أنه بلا شك من خلال ما ورد عنه في معاجم اللغة ومعاجم البلدا ن يتبين للباحث أنه عاش بداية حياته في ديار بني سليم وترعرع أول شبابه في أرض الحجاز قبل انتقاله إلى الحواضر ومن ثم إلى خراسان في سنة 217هـ وشهرته به». فأقول: لقد رجع هنا إلى قولي الذي انتهيت إليه في مقالي، وهو أنّ عرامًا نشأ بالحجاز، وهذا اعتراف منه بصواب ما انتهيتُ إليه، فهو يوافقني ويخالف البلادي، ولو كان لديه ما يكفي من الشجاعة العلمية والأدبية لذكر أنني أثبتُّ هذا قبله بناء على النصوص، ثم لردّ هو على الشيخ عاتق البلادي الذي قال: «إنّ عرّامًا لم يرَ الحجاز ولا مشى فيه!» (محراث التراث 27) وقال: «إنّ عرّامًا رغم أنّه سُلمي، إلا أنّه وُلد ونشأ ببلاد ما يُعرف اليوم بإيران»(محراث التراث 14) فلماذ أغضى كاتب المقال الطرف عن أقوال الشيخ البلادي هذه ولم ينتقدها؟ وهو يخالفه في نشأة عرام ويوافقني! وما تفسير ذلك؟!
8 - وقال: «ذُكر عرام في عدةٍ من المعاجم اللغوية، وقد جاء ذكره في كتاب العين للخليل بن أحمد الفراهيدي (ت 170هـ أو بعدها بقليل) في (52) موضعًا باسمه ونسبه في نصّ واحد عنه ورد بـ: «عرام السلمي»». فأقول: هذا إحصاء المكتبة الشاملة، وفي العين نصّ منقول عن (السلمي) دون ذكر اسمه، فالأرجح أنّه عرّام، ولي بحث قديم عن أبي تراب اللغوي (من علماء القرن الثالث) صاحب كتاب الاعتقاب في اللغة، نشرته في مجلة الجامعة الإسلامية سنة 1422هـ، ووجدتُ أبا تراب هذا يروي عن عرّام السلمي في خمسة عشر موضعًا، أحصيتها من التهذيب، وقد لَقِيَ أبو تراب عرامًا في خراسان وسمع منه هناك، قال الأزهري في التهذيب في مادة طمس 6/ 115: «قال أبو تراب: سمعتُ عَرَّاما يقول: طَمَّسَ في الأرض، وطَهَّسَ، إذا دَخَلَ فيها»، وأشرت في بحثي إلى نصوص عرام المقحمة في معجم العين بعد وفاة الخليل، وذكرت أنّ فيه نصوصًا كثيرة لتلامذة الخليل ولغيرهم بعضها مما حشاه الليث بعد الخليل وبعضها مما علّقه أهل العلم على طرر بعض النسخ، ثم صار من أصل المعجم في النسخ اللاحقة.
9 - وقال كاتب المقال في كلامه عن عرّام: «وذكره ثعلب (ت 291هـ) في ديوان الخنساء عند الحديث عن المواضع الجغرافية التي ترد في أشعارها، ولم تذكر أدنى معلومة عنه، غير ما ورد من عبارة موهمة جاءت في الديوان، حيث قال عرّام: إنما هو ذات أَخْبَاب، وكذا قال ابن أخت الخنساء، وهو وادٍ يصبّ في ذي الخَدْمة. والخنساء هي الشاعرة تماضر بنت عمرو السلمية (ت 24هـ) وهذا –أيضا- بالنظر إلى الزمن المذكور بعيد جدا، مما يثير التساؤلات!!» يقصد بالتساؤلات: أن النص قد يوحي أو يوهم بأن عرامًا لَقِي ابنَ أخت الخنساء. فأقول: إن ما يثير التساؤلات حقّا هو أهليّة هذا الباحث الذي لا يفهم النصوص على وجهها الصحيح، ويبني على فهمه السقيم الفجّ استنتاجات باطلة، فليس في نص ثعلب ما يفيد بأنّ عرامًا سمع من ابن أخت الخنساء ولا عاصره، وقد قيل إن هذا الشرح ليس لثعلب، ولكن لنفترض صحة النسبة، وإليكم النصّ كما جاء في ديوان الخنساء ص 203، قال الشارح ثعلب أو غيره: «قال عرّام: إنما هو ذات أخباب، وكذا قال ابن أخت الخنساء، وهو وادٍ يصبّ في ذي الخَدْمة» فالشارح هنا يروي قولين أحدهما لعرّام، والآخر لابن أخت الخنساء، فالقائل: (وكذا قال ابن أخت الخنساء) هو شارح الديوان وليس عرامًا، ثم لو قلنا تنزّلا إن القائل هو عرّام؛ أفي هذا النصّ ما يفيد بإنّ عرامًا سمع من ابن أخت الخنساء أو شافهه؟ أفيه: سمعتُ منه أو حدّثني أو قال لي أو نحو هذا؟ ولو قلتَ أنت اليوم: (قال الخليل) أيعني هذا أنك عاصرت الخليل وسمعت منه؟ فأين ما يثير التساؤلات المزعومة في هذا النص؟ لقد أساء هذا الكاتب الفهم في موضع ظاهر كالمحجّة، لا يخفى إلا على المتطفّلين على البحث العلمي.
10 - وقال: «ثم أورد الصاعدي في مقاله بعض أقوال العلماء، وعلّق عليها، وفسّرها على غير مرادها، وحقيقة الأمر أنّ أقوال العلماء واضحة فيما ورد عن عرام من غموض واضطراب في مولده ونشأته وروايته، ولو أنّ الصاعدي سار في بحثه على بصيرة وهدى لتبيّن له أنّ الأقوال في عرّام متضاربة، والمرويّات عنه متفاوتة وأن القطع في أمره ومروياته مغالطة والتساهل في بيانه مكابرة». فأقول: هذا ادّعاء أجوف وهو من باب إلقاء القول على عواهنه بلا دليل ولا سند، فأين أقوال العلماء التي فسرتها على غير مراد أصحابها؟ لماذا لم يذكر قولا واحدًا منها ليثبت زعمه؟ ثم إنه وقع في تناقض دون أن يدري فقد قال في موضع آخر: «غير أنه بلا شك من خلال ما ورد عنه في معاجم اللغة ومعاجم البلدان يتبين للباحث أنه عاش بداية حياته في ديار بني سليم وترعرع أول شبابه في أرض الحجاز قبل انتقاله إلى الحواضر» وقال هنا: «وحقيقة الأمر أن أقوال العلماء واضحة فيما ورد عن عرام من غموض واضطراب في مولده ونشأته وروايته» فالتناقض ظاهر، فكيف له مع هذا الغموض الذي يشير إليه أن يوافقني ويخالف البلادي ويقرّر أنّ عرّامًا «عاش بداي ة حياته في ديار بني سليم وترعرع أول شبابه في أرض الحجاز» وقد صدّره بقوله: (بلا شكّ)؟ ما سرّ هذا التخبط والاضطراب؟
11 - وبعد أن سرد جملة من النصوص والإشارات التي ذكرتها أنا في مقالي قال: «وإليكم بعض أقوال العلماء المحققين التي لم يتطرّق لبعضها د. الصاعدي». فذكر الكاتب عَقيب هذا نصوصًا للميمني وعبدالسلام هارون، وهي من النصوص التي أرشدته إلى مكانها، ونقلت ما يكفيني منها وتركت الفضول وما لا حاجة إليه، فكيف يعدّها استدراكًا عليّ؟ إنّ الباحث الحاذق لا يحطب ولا يستكثر ولا ينقل من النصوص إلا موضع الشاهد الوافي، دون أن يترك من النص ما ينقض حجته أو يضعفها. وأما زعمه أنه فاتني نصوص عبدالحميد الشلقاني وإبراهيم السامرائي ومحمد صالح شناوي (السارق كما سيأتي) فزعم باطل أيضًا، وهو يكشف عما لديه من خلل في أدبيات البحث العلمي، فأقوال هؤلاء -وغيرهم ممن لم يذكرهم- لا تضيف جديدًا لم يقله المتقدّمون أو محققو كتاب عرّام، وإن من عيوب البحث العلمي التزيّد من المراجع والأقوال المكرورة المتأخرة التي لا تحمل مضمونًا جديدًا أو تقدّم فكرة مفيدة. وسأورد هنا بعض النصوص التي يزعم الكاتب أنها فاتتني وأنه استدركها عليّ ليعلم القارئ الكريم حقيقة زعمه ومستوى فهمه، وإليكم أحد النصوص: قال هذا الكاتب: «وقال السامرائي: وعرام بن الأصبغ السلمي صاحب كتاب «أسماء جبال تهامة» من أعراب خراسان، وكان قد ذهب إليها مع عبدالله بن طاهر سنة 217هـ» فأقول: ما الجديد في هذا النص وما الفائدة منه؟ هل فيه زيادة على ما نقلته أنا من المصادر الأصيلة؟ هل فيه كلمة واحدة لم أذكرها من مصادري قبل السامرائي؟ وهل هو مصدر قديم حتى نحتجّ به ونغتفر له النقل والتكرار لقدمه؟ ومثله ما نقله من كتاب الشلقاني (الأعراب الرواة) وكذلك ما نقله من كتاب الشناوي، فلا جديد فيما نقله عنهما، ولذا تركت ذلك عمدًا. وبهذا تعلم أنّ قوله بعد سرده تلك النصوص: (فأين د. عبدالرزاق الصاعدي عن هذه الأقوال الصريحة الواضحة) يثير الشفقة على حالةٍ بحثيةٍ بئيسة عند بعض المحسوبين على البحث العلمي وهو منهم بريء.
12 - وزعم أنه استدرك عليّ قول د. محمد صالح شناوي (محقق رسالة عرام طبعة دار الكتب العلمية): وهو قوله: «ولم نعثر لعرّام على ترجمة، إلا ما ذكره ابن النديم عرضا عند سرده لأسماء الأعراب الذين دخلوا الحاضرة، فذكره قرينا لأبي الهيثم الأعرابي، وأبي المجيب الربعي، وأبي الجرّاح العقيلي، وقد ذكره باسمه كاملا: عرام بن الأصبغ السلمي»، فأقول: لو كان كاتبنا باحثًا محققًا يحسن اختيار النصوص ويعي معنى الاستدراك لما نقل من سارقٍ واحتفى به، فهذا القول الذي نقله عن الشناوي مسروق بنصّه من مقدمة عبدالسلام هارون لتحقيقه رسالة عرام، (أسماء جبال تهامة، الطبعة الثانية، منشور نوادر المخطوطات 2/ 378) وليس فيه حرفٌ واحدٌ زائد على قول هارون (ملحوظة: جاء في الطبعة الأولى لهارون: «ما ذكره القفطي» وصححها في الطبعة الثانية وجعلها: «ما ذكره ابن النديم» ومنها سرق الشناوي) بل إن المقدمة التي كتبها هذا الشناوي بين يدي رسالة عرام مسروقة من مقدمة عبدالسلام هارون لتحقيقه رسالة عرام (الطبعة الثانية)، إلا أشياء قليلة زادها لا قيمة لها، ولم يشر إلى هارون في أي موضع من مقدمته المسروقة، ولأنّ هذا الشناوي يعلم أنه سارق لم يضع اسمه على غلاف الكتاب ووضعه على استحياء في الغلاف الداخلي. وإنّ مثل هذه السرقات الصلعاء تخفى على أشباه الباحثين.
وفي الختام أنصح هذا الكاتب أن يعيد النظر في أدواته، وأن يتعلّم أسس البحث العلمي قبل أن يتجاسر على الكتابة ويتطاول إلى النقد.
** **
- د. عبدالرزاق الصاعدي