د.محمد بن عبدالرحمن البشر
الإنسان خليط من المشاعر والأحاسيس والحالة النفسية والتصرفات، ونحكم عليه من خلال هذه الصفات، رغم أننا نرى جسده ظاهراً أمامنا، ومن خلال ذلك يمكننا أن نحكم على تلك العلاقات الاجتماعية التي تربطنا به أو تربطه بالآخرين، ولا شك أن الروح هي المحرك الأساسي لتلك المشاعر والتصرفات، ولا أحد يعرف ماهيتها، والعلاقة بين الروح والجسد الذي هو حاو لها، والجدل حولها ظل قائماً ومستمراً، وكل أدلى بدلوه سواء من قبل الفقهاء، أو أصحاب الكلام، أو المتفيقهين أو المتطفلين على العلم، وهو جدل لا طائل من ورائه، ولا فائدة من الحديث فيه، إلا إذا كان سيصل إلى نتيجة حقيقية، وذلك أمر مستبعد ولا شك، لأن الروح غير معلومة وغير ظاهرة، وما نؤمن به نحن المسلمين أن الروح من أمر ربي، يقول الشاعر:
رسم يمثل جسمي في ظواهره
ويغفل الروح لم يرسم لها أثرها
فليت ما كان مستوراً بدى علناً
وليت ما كان يبدو عاد مستترا
من اليقين أن هناك صفات موروثة وآخرة مكتسبة، ونحن بدورنا نحكم على تلك الصفات إما بالثناء أو بالمقت الظاهر أو المستور، وحكمنا أيضاً ينطلق مما لدينا من صفات موروثة أو مكتسبة، ولهذا فإن الحكم على الشيء جزء من تصوره، ولكل زاده الذي يحمله في هذه الدنيا.
وقد نقرأ عبر التاريخ عن شخصيات كثيرة تمارس خليطاً من التصرفات المتناقضة التي يحار البعض في معرفة أسبابها وكنهها، لكن ذلك قد يبحث البعض عن مبرر لها هنا أو هناك، منطلقاً من التحليل الاستهوائي، أو من منطلق الفضيلة، وتلمس الأعذار، لتلك الصفات الشخصية المتناقضة.
لنأخذ مثلاً الخليفة العباسي هارون الرشيد، الذي ينقل لنا المؤرخون أنه كان يحج عاماً ويغزو عاماً آخر، كما نقل لنا المؤرخون أيضاً عنه أنه يأنس لجلسات السمر والطرب والغناء مع الجواري والقيان، ولم يقبل البعض أن يصدق أن ذلك يقع من خليفة المسلمين، ولهذا فقد امبروا للدفاع عنه، وإيجاد المبررات لوقوع ذلك التناقض غير المقبول، واتهموا صاحب كتاب كليلة ودمنة، وصاحب كتاب الأغاني، وهو أبو فرج الأصفهاني، وأمثالهم، بأنهم كانوا يريدون النيل من خليفة المسلمين لمرام خبيثة لديهم، لكن الحقيقة أن كتب التاريخ منذ زمن طويل ومنذ أن بدأ التاريخ يكتب، وهو يحمل بين طياته الكثير من جلسات الأنس والغناء والطرب لتلك الشخصيات المرموقة في نفس الوقت الذي أيضاً يحمل لنا أن أولئك يفعلون الخير ويقومون بواجباتهم الدينية والدنيوية، ويشاركون الناس مواجعهم، كما أنهم يظلمون الناس ويجورون عليهم، ويعينون في المناصب من الوزراء والحجاب وكتاب الرسائل، من يحمل ذلك التناقض، وربما لصفات يحملها بعض من أولئك، أو لذة تعيين لمحبة أو صحبة، وهذا ما حدث للصاحب ابن عباد لأنه كان صاحباً لمؤيد الدولة منذ الصغر، وهذا أمر مألوف.
الشاعر ابن الحجاج مثال لذلك السلوك المتناقض، فقد عاش هذا الرجل في القرن الرابع، وكانت لديه موهبة كبيرة في القبول من قبل الآخرين، وقد حاول الوصول إلى الوزراء في عصره، وتم له ما أراد، وقد كان لأبي إسحاق الصابي دور كبير في تقديمه للوزراء وتعريفه بهم، لكنه بموهبته استطاع أن يصل إلى قلوبهم وأن يستمتع بالجلوس معهم ويمتعهم بحديثه وشعره الذي ليس له حدود أخلاقية أو قيمية تمنعه من قول ما يريد من شعر السخف، وهو شعر مبتذل خفيف، لا يتورع قائله أن يقول فيه ما لا يمكن قوله من غيره، لاسيما في وصف أمور وأعضاء، يتجنب الكثير وصفها، لكنها أيضاً تجعل تلك المجالس أكثر متعة في ذلك العصر، وربما في معظم العصور، وقد يكون للجرأة والقدرة أيضاً على الطرح بطريقة جيدة دور في القبول.
كان الوزير ابن العميد يأنف من ابن الحجاج، لابتذاله في الشعر وفي المجالس، لكن شاء الله أن يجتمعا في مناسبة معينة، فرآه الوزير ابن العميد رجلاً لطيفاً شيقاً فألفه، وقربه، ثم عقد ابن الحجاج صحبة مع ابن بقية الذي أصبح وزيراً، وعينه محتسباً، وقد نجح فيها باعتماده على أعوان أكفاء، وقد سئل ذات مرة عن ثمن اللحم، فأجاب أنه يعرف ثمن الخمرة، وبعد اتهام ابن بقية وقتله لم تضره تلك العلاقة، ثم تقرب من الوزير الحسن المهلبي الذي قربه وأدناه، وأصبح من جلسائه، ثم حدثت بينهما جفوة، فهجاه، لكن سرعان ما أعاده وقربه مرة أخرى، ربما بوساطة من صاحب نعمته أبي إسحاق الصابي.
هناك وزيران آخران تقرب إليهما ابن الحجاج فعرفاه وجعلاه من جلاسهما، وهما أبو الفضل العباس، وأبو الفرج محمد بن العباس، وكانا قبل أن يصلا إلى الوزارة متنافسين، ومع هذا استطاع أن يكسب ودهما معاً قبل أن يصل أي منهما إلى الوزارة، وهذا يدل على أن لديه مهارة فائقة في التعامل الاجتماعي، زد على ذلك أنه كان مقرباً من الملك عز الدولة باختيار، وأيضاً مقرباً من عضد الدولة الذي كان على عداء مع ابن عمه باختيار.
والحديث عنه يطول وقد نفرد له مقالاً في المستقبل، وهكذا فالمهارة مقبولة، والسلوك محتمل، فذلك يتعلق بالشخص ذاته، لكن الصفات الذاتية الدفينة والرديئة، مثل الحقد والحسد والغدر والكبر، وغيرها من الأخلاق الذميمة يمتد أثرها إلى الآخرين، وهي ما تدمر المجتمعات، وربما أن ابن الحجاج لم يكن كذلك.