أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: تلقيتُ بكل سعادة وسرور من أخي الدكتور (محمد خير البقاعي) حفظه الله تعالى نسخة من تحقيقه كتاباً نفيساً جداً؛ وهو كتاب (الأمالي من الفوائد والأخبار)، التي أملاها أبو القاسم عبدالرحمن بن إسحاق النحوي المعروف بـ (الزَّجَّاجِيِّ) المتوفى سنة 339 أو 340 هجرياً.. وعلى الرغمِ من ضيق الوقت، وقلة النشاط، وكثرة الأعباء؛ فقد آثرت أن أسلط الضوء على الكتاب ومؤلفه، والجهد الذي بذله الدكتور (محمد) لإخراجه في أبهى حلة شكلاً ومضموناً؛ فهنيئاً له هذا الإنجاز العظيم، وهنيئاً للقراء ورواد العلم والأدب والنحو هذا العمل الذي هو في عمق التأليف السبعة التي قال عنها الإمام الفحل أبو محمد ابن حزم رحمه الله تعالى: «وإنَّما ذكرنا التأليف المستحقة للذكر، والتي تدخل تحت الأقسام السبعة التي لا يؤلف عاقل عالم إلا في أحدها؛ وهي: إما شيء لم يُسبق إليه يخترعه، أو شيء ناقص يتمه، أو شيء مستغلق يشرحه، أو شيء طويل يختصره دون أن يخل بشيءٍ من معانيه، أو شيء متفرق يجمعه، أو شيء مختلط يرتبه، أو شيء أخطأ مؤلفه يصلحه.. وأما التواليف المقصرة عن مراتب غيرها فلم نلتفت إلى ذكرها؛ وهي عندنا من تآليف أهل بلدنا أكثر من أنْ نحيط بعلمها».
قال أبو عبدالرحمن: صدر الكتاب في خمسة مجلدات في دار الغرب الإسلامي ببيروت بطبعته الأولى عام 1442هجرياً/ 2021 ميلادياً، وقد اعتمد الدكتور (البقاعي) في تحقيقه على نسخة خطية توجد في تركيا في مكتبة فيض الله أفندي، وهي القسم الكبير من الأمالي الكبرى، وكذلك نسخة إيران، وبرلين، والفاتيكان، ونبذة مدريد، وأخبار أبي بكر بن دريد، وأخبار أبي القاسم الزجاجي، ومجالس العلماء، والإبدال والمعاقبة، والنظائر والحروف التي يتكلم بها في غير موضعها لابن السكيت بإملاء الزجاجي، واشتقاق الأسماء للأصمعي برواية الزجاجي، وشرح قصيدة عدي بن زيد لثعلب برواية الزجاجي، وجاء كل ذلك في (1083) أملية، وتعليقة، ورواية، وخبر، وبدء العمل فيه منذ عام 1423 هجرياً/ 2003 ميلادياً، وهذه النسخة التي صدرت مؤخراً لم يطلع عليها الدكتور (عبدالسلام هارون) رحمه الله تعالى في تحقيقه للكتاب الذي نشره عام 1382 هجرياً في المؤسسة العربية الحديثة بالقاهرة، واكتفى بنسخة القاهرة التي نشرها الشنقيطي، ونسخة عارف حكمت التي منها صورة في معهد المخطوطات العربية، وهي قسم آخر من الأمالي شأنه شأن ما نشره عبد (رب) الحسين المبارك، وكلها كانت جميعاً في مجلد واحد، ويقول الدكتور البقاعي معرفاً بالكتاب في مقدمة التحقيق ص13: ((وفكرتي التي انتهيت إليها مفادها أنَّ كتاب الأمالي كتاب واحد تضمن أمالي بالطريقة التقليدية المعروفة لكتب الأمالي، ولكنه تضمن أيضاً كتيبات وأخباراً رواها الزجاجي عن شيوخ سبقوه وضمَّنها أماليه، وقد رأيتُ أن أجمعها مرةً أخرى في كتاب جامع عن مخطوطاتها الموجودة مسترشداً بمقولة السيوطي في كتابه (المزهر) 2/ 313 التي يبدو أنها الصواب في تزاحم الأقوال: وآخر من علمته أملى على طريقة اللغويين أبو القاسم الزجاجي، له أمالٍ كثيرة في مجلدٍ ضخم)).
قال أبو عبدالرحمن: حظيت الأمة الإسلامية والعربية بتراثٍ ثقافي يميزه التنوع والغزارة والشمول في جميع الميادين من تفسيرٍ وفقه أدب ونحو، وقد عكف الباحثون على دراستها وحفظها بما تضمنته من الفوائد والأخبار ورواية الأشعار وجمع الأمثال، وتتبع غرائب اللغات، وصنفت كتب كثيرة مشهورة منها كتاب الأمالي، وغيرها من الكتب التي شاعت وانتشرت بين الناس، وتميزت بصبغتها الأدبية، ومما ساعد على انتشارها، والتفنن في تأليفها، والتأنق في موضوعاتها شيوع مجالس السمر بين الخلفاء والأمراء والوزراء، وقد خلفت هذه المجالس أدباً قلَّما نجد له مثيلاً في آداب الأمم الأخرى، وأغلب هذه الكتب اتسمت بالصبغة الأدبية على الرغم من أنَّ المدقق في كتاب (الأمالي) يجد أنها تجمع بين دفتيها الأدب بأنواعه المختلفة من شعر ونثر، وخطب وحكمة، وأقوال مشهورة، وتجمع إلى جانب ذلك علوم اللغة بأنواعها، من غريب ونحو وصرف، ونقد وبلاغة، وقد عبر ابن خلدون في مقدمته عن علم الأدب في الحضارة الإسلامية، بقوله: ((وإنما المقصود منه عند أهل اللسان ثمرته، وهي الإجادة في فني المنظوم والمنثور على أساليب العرب ومناحيهم، فيجمعون لذلك من كلام العرب ما عساه تحصل به الكلمة من شعر عالي الطبقة، وسجعٍ متساوٍ في الإجادة، ومسائل من اللغة والنحو، مبثوثة في أثناء ذلك، متفرقة)).. انظر مقدمة ابن خلدون/ تحقيق: عبد الله محمد الدرويش، دار الفكر ببيروت/، ط1، ص629.. وكَثُرَتْ الأمالي في مختلف العلوم والفنون ولعل علماء الحديث هم أكثر الناس اهتماماً بهذا اللون من التأليف، ومن أشهر الأمالي المصنفة في علوم العربية عامة: (أمالي ثعلب)، و(أمالي اليزيدي)، و(أمالي الزجاجي)، و(أمالي القالي)، و(أمالي المرتضى) وتسمى (غرر الفوائد ودرر القلائد)، و(أمالي ابن الشجري)، و(أمالي ابن الحاجب).. وطريقة هؤلاء في الإملاء كطريقة المحدثين، يكتب المستملي أول القائمة: مجلس أملاه شيخنا فلان بجامع كذا في يوم كذا، ويذكر التاريخ، ثم يورد المملى بإسناده كلاماً عن العرب والفصحاء، فيه غريب يحتاج إلى التفسير ثم يفسره.. وكتابُ الأمالي كغيره من المصنفات التراثية، يعكس ثقافة العصر الذي احتضن نشأته، ونظراً للوظيفة التي كانت تؤديها هذه المصنفات كونها تثري ثقافة الفرد وتنميها بتنوع موضوعاتها وشمولها؛ فقد أدرك العلماء الأوائل هذه الناحية، وأولوها اهتمامهم، وتعددت الثقافات لدى علمائنا الأوائل ولا تنحر بعلم الواحد في مجال واحد كما هو اليوم، فأبدعوا في ذلك وطرقوا هذه الموضوعات بكل جدارة وإبداع.
قال أبو عبدالرحمن: كتاب (الأمالي) للزجاجي هي مجموعة أخبار ينتقل القارئ فيها من تفسير آية إلى خبر تاريخي، ومن شعر إلى رثاء، وقد غلب عليه النزعة اللغوية شرحاً واستشهاداً وإسناداً، ولعل ذلك يعود إلى أنَّ الزجاجي كان يملي هذه الأخبار على طلابه من الذاكرة، فكان لكل درس أخباره ونصوصه على نحو ما كان يدور في الدروس القديمة التي تعرف باسم المجالس، والزجاجي حريص في أماليه أنْ يكون أميناً، وهذا ما دفعه لأنْ يولي اهتماماً بالغاً بالسند، كما أنَّ منهجه في سرد النصوص منهجٌ متزنٌ يقوم بعرض المسألة ثم يورد بعدها الحجج والبراهين؛ ليثبت صحتها أو العكس، وقد اهتم الزجاجي في أماليه بالرجز والأمثال، كما شكَّل كل من القرآن الكريم والحديث النبوي والشعر جوانب مهمة في الاستشهاد، ولم تشغل ظاهرة الإبدال الصوتي في الأمالي حيزاً مهماً، فوردت بصفة قليلة، لكنها تبين مدى وعي الزجاجي بهذه الظاهرة اللغوية، وشَغَل الجمع حيزاً مهماً في الأمالي وإنْ كان ليس بالواسع؛ فتطرق إلى نوع منه وهو جمع التكسير؛ فانقسم هذا الأخير عنده إلى جمع مطرد وآخر غير مطرد نقل سماعاً.. كما اعتمد الزجاجي منهج المناطقة في عرض مسائل اللغة، حيث يقوم بتقديم القضية ثم يعلق عليها بتقديم الحجج وتبيان صوابها من خطئها، واتبع في مذهبه النحوي مذهب البغداديين، الذي يجمع بين علمي البصرة والكوفة فكان يعرض القضايا ويختار منها الأصوب دون تحيز لطرف على حساب الآخر، ولكن كان معروفاً عنه ميوله للبصريين، وتراوح قياس وسماع وتعليل الزجاجي للمسائل اللغوية بين المذهبين الكوفي والبصري، فمثلاً فيم يخص القياس فقد خلط الشعراء، الذين أدخلوا (يا) النداء على المعرف بـ(ال) فتبع بذلك المبرد الذي كان يقول: (هو غلط من قائله)، ومن علله عدم الجمع بين الإضافة والألف واللام، وتعد قضية اللفظ والمعنى من الظواهر اللغوية التي كثر حولها الكلام والنقاش بين العلماء واللغويين والأدباء والباحثين قديماً وحديثاً، وقد عدها الكثيرون منهم سمة من سمات العربية ومظهراً من مظاهر عبقرية العربية، وبرز اهتمام الزجاجي في بناء منهجه اللغوي بالروابط المعنوية والموضوعية التي تعرف عند اللغويين والباحثين المحدثين بالمشترك اللفظي، الترادف، التضاد، وأصبحت هذه الظواهر (المشترك اللفظي، الترادف التضاد)، التي تحتويها كتب الأمالي تطرح العديد من القضايا على مستوى المعجم وصناعته؛ ومن المهم للباحث تناوها في الدراسات اللغوية الحديثة، وقد يكون ذلك أحد السبل في تطوير المعاجم.
قال أبو عبدالرحمن: وأما منهج الزجاجي في كتابه فقد اهتم بالرجز لكثرة الغريب فيه ولا عجب فالزجاجي لغوي، وقد أورد أراجيز العرب شواهد على مسائل وقضايا متعددة، كما اهتم بالأمثال فأورد نصوصاً منها وشرح غريبها وذكر مناسبتها، وتضمن الكتاب نصوصاً عدة في ميادين معرفية وثقافية، وشكل القرآن الكريم جانباً مهماً في كتابه (الأمالي)؛ فالزجاجي ذو نزعة تجديدية توازن بين نحوي البصرة والكوفة وتأخذ من محاسنها تاركاً العصبية المذهبية جانباً، وقد اتسم منهجه بالدقة والوضوح والأمانة وذلك في عرضه لشتى آراء النحويين مع نسبة كل رأي لصاحبه، وراعى التسلسل الزمني حتى في ترتيبه للشواهد حين يحتاج إليها فيبدأ بالاستشهاد القرآني، ثم بالحديث، ثم بأقوال نسبت إلى الصحابة رضوان الله عليهم، وإلى لقاءٍ قادم إن شاء الله تعالى, والله المستعان.
** **
(محمد بن عمر بن عبدالرحمن العقيل) - عفا الله عَنِّي، وعنهم، وعن جميع إخواني المسلمين -