د. تنيضب الفايدي
تحيط المدينة النبوية الكثير من الجبال والحرار من جميع جهاتها، لذا تكثر الأودية فيها، ويمكن تصنيفها إلى قسمين: أودية شهير مثل: وادي العقيق، أو الوادي المبارك، وادي بطحان، وادي الرانوناء، وادي مهزور، وادي قناة، وادي مذينيب، وأودية أقلّ شهرة وهي: وادي شظاه، وادي الصرار، وادي جفاف، وادي العريض.
وتمتاز تلك الأودية بميزات وخصائص جعلت الإنسان يحرص على السكنى فيها، ومن أهم خصائصها: وفرة المياه وخصوبة التربة ونظافة البيئة وجوّها اللطيف، فشهدت تلك الأودية على حضارات قديمة، حيث سكنت على ضفافها قبائل عربية وأرست دعائم التطور الحضاري، والبعض منها ورد ذكرها في أحاديث الرسول -صلى الله عليه وسلم-، كما أن البعض ارتبطت بالحوادث التاريخية الإسلامية، وتتمتع تلك الأودية بعمق حضاري بوصفها حاضنةً لجزء من التاريخ والثقافة، لذا فإنها من مثيرات الأشواق إليها منذ القدم، فكم من الشعراء تغلغل حبّها في قلوبهم فنفثوا هذا الحب شعراً ونثراً.
ومن أبرز تلك الأودية وادي بطحـان الذي يسير من جنوبها وحتى غربها، وهو من أشهر أودية المدينة المنورة بعد العقيق إن لم يكن متساوياً معه في الشهرة، ولما قدم اليهود اختار بنو النضير بطحان فاتخذوا بها الحدائق والآطام وبقوا فيها إلى أن أجلاهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، بسبب غدرهم وخيانتهم ونقضهم العهد، وذلك في غزوة بني النضير.
ووادي بطحان يخترق المدينة المنورة، ويطلق عليه هذه التسمية (وادي بطحان) بدءاً من شرق مسجد قباء، ويتشكل من عدة أودية، حيث يبدأ بشعب العجوز الذي يأتي من ظاهر المدينة المنورة من حرة شوران، ثم وادي مذينيب يرفده من الجنوب الشرقي ويلتقي مع وادي بطحان شرق مسجد قباء تقريباً عند تكونه، أوله من الماجشونية، ثم يمرّ كذلك إلى أن يمرّ غربي سور المدينة إلى طرف المصلى، ثم يخرج إلى غربي سلع وقرب مساجد الفتح، ثم يمرّ كذلك إلى أن يلتقي مع العقيق بالغابة، حيث مجتمع الأسيال.
وعلى جانبي وادي بطحان كانت منازل الأوس والخزرج وتحدد مواقعهم بهذا الوادي، إضافة إلى بعض المساجد الشهيرة كمسجد الفضيخ (مسجد الشمس) حيث يقع على شفير الوادي (عندما يكون شرق قباء)، وغير بعيد عن شاطئه الشرقي توجد عدة آبار مباركة، مثل: بئر العهن، وبئر غرس، وفي منتصفه (تربة صعيب) وهي من المواقع التي يستشفى -بإذن الله- بترابها وبغيرها من الأماكن في المدينة المنورة.
وبين قباء وبين صدر بطحان توجد العين الزرقاء، وكانت العين الزرقاء تعدُّ المصدر الأساسي للماء داخل المدينة المنورة من عهد معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه-، وحتى عهد قريب، وقد أجرى مروان بن الحكم أمير المدينة المنورة في عهد معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه-، وجعل لها عدة مناهل داخل المدينة، ينزل إليها بدرج، وقد أطلق على (العين) عين الأزرق نسبة إليه لزرقة في عينيه.
أما تسمية بطحان فقيل: سمي بطحان لأن القسم الذي يجري فيه داخل المدينة سهل منبطح.
وقد وردت بعض الأحاديث الشريفة حول وادي بطحان، فعن عائشة -رضي الله عنها- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «بطحانُ على ترعة من ترع الجنة».
كما ورد ذكر بطحان في حديث عقبة بن عامر -رضي الله عنه- قال: «خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ونحن في الصفة، فقال: أيكم يحب أن يغدو كل يوم إلى بطحان، أو إلى العقيق، فيأتي منه بناقتين كوماوين، في غير إثم، ولا قطع رحم، فقلنا: يا رسول الله نحب ذلك، قال: أفلا يغدو أحدكم إلى المسجد، فيعلم أو يقرأ آيتين من كتاب الله -عز وجل- خير له من ناقتين، وثلاث خير له من ثلاث، وأربع خير له من أربع، ومن أعدادهن من الإبل».
ووادي بطحان اشتاق إليه الناس وصافوه الود، بل إن أحدهم يدفع أحزانه بأخرى شوقاً إلى «أهل بطحان وما يحيط به».
أبا سعيدٍ لم أزل بَعدكم
في كُرَبٍ للشوق تغشاني
كم مجلس ولّى بلذَاته
لم يَهْنَني إذ غاب نُدْماني
سقياً لسَلْعٍ ولساحاتها
والعيش في أكناف بُطْحان
أمسيتُ من شوق إلى أهلها
أدفعُ أحزاناً بأحزان
وقال ابن مُقْبِل:
عفا بَطِحَانُ من سُلَيْمَى فيَثْرِبُ
فملقى الرحال من مِنَى فالمُحَصَّبُ
وقد قسم الله بعض الشعراء وادي بطحان إلى (المنحنى، النقا، وحاجر) وهذه ترد كثيراً في حبّ المدينة المنورة، فلابدّ من ذكر بعض الكلمات حولها: المنحنى: يقابل النقا من الجهة الشرقية من وادي بطحان، أي: جنوب وشرق مسجد الغمامة حالياً، وقد تغير وضعه وأصبح موقعه عمارات شاهقة.
النقا: الجانب الأيسر لوادي بطحان عند دخوله المدينة المنورة القديمة حتى باب العنبرية حالياً، ثم تبدأ (حاجر) حتى وادي العقيق.
عين النقا: عين (بكسر العين) جمع عيناء أي: واسعات الأعين حسانها، وحسن عيد الأنثى يعتبر مجمع الحسن وأعظم الأدلة على جمالها، ولاسيما إذا كانت حوراء (حور عين)، والحوراء التي في عينها كحل وملاحة وحسن وبهاء.
وكم تردد ذكرهما مع غيرهما في شعر الحنين المعبر عن أنبل العواطف وأرق المشاعر إلى المدينة الحبيبة، فهذه الكلمات قيلت في تذكر أهل وادي بطحان، ولاسيما أهل النقا، حيث بدأ قصيدته:
مَن عذيري يوم شرقيّ الحمى
من هوىً جدّ بقلبٍ مزحا
نظرةٌ عادتْ فعادتْ حسرةً
قَتَلَ الرامي بها من جرَحا
قلن يستطردن بي (عين النقا)
رجلٌ جُنَّ وقد كان صحا
والنقا وحاجر مع المنحنى أكثر الكلمات ذكراً عند البكاء شوقاً للمدينة المنورة.
والنقا مقصوراً ما بين وادي بطحان والمنـزلة التي بها السقيا، وهناك أشعار ورد فيها النقا فمن ذلك:
ألا يا سائراً في قفر عُمْرٍ
يكابد في السُّرَى وَعْراً وسَهْلا
بلغتَ نقا المشيب وجزت عنه
وما بعد النَّقا إلا المصلّى
وقال الشاب الظريف:
ولقد رأيت برامةٍ بان النقا
فمنعتُ طرفي منه أن يتمتّعا
وما ذاك من وَرَعٍ ولكن من رأى
أشباه عِطفك حُقّ أن يتورّعا
وقال ابن الحُلاوي:
يقولون: يَحْكى البدرَ في الحسن وجهُهُ
وبدرُ الدجى عن ذلك الحسنِ مُنحَطٌ
كما شبَّهوا غصن النَّقا بقوامه
وذلك تشبيه عن الحقّ مُشْتط
وتذكر كلمات مثل: المنحنى، وحاجر، والنقا، وسلع، وأحد، ووادي بطحان، ووادي الرانوناء، وادي العقيق، وادي قناة، وإضم، وقباء، والعوالي، والجزع، وسليع، ثنيات الوداع، وذي سلم، وشوران، تذكر هذه الكلمات يولّد الحبّ فيقبل الناس بقلوبهم وعواطفهم إلى المدينة وكم من محب وقف بها، وقد طفرت دمعة صامتة تظهر كوامن النفس ومكنون الضمير وخبايا الشعور.
يا نسيم الريح من كاظمة
شد ما هجت الاسا والبرحا
الصبا إن كان لا بد الصبا
أنها كانت لقلبي اروحا
اختفى الآن وادي بطحان واختفت معه الأودية المكونة له وغابت عن الأنظار الكثير من المآثر المرتبطة به حيث غطي مجرى بطحان قبل عدة سنوات بدءاً من منطقة قربان، كما أن مكوناته من الشرائع والأودية قد جمعت في مجرى وحوّل ذلك المجرى إلى وادي العقيق.