قَضَيتي حَياةً مِلؤُها البِرُّ وَالتُقى
«فَأَنتَي» بِأَجرِ المُتَّقينَ جَديرُ
ما من شك أن غياب عمود المنزل يُظلم، ويوحش إذا خلا صاحبه منه، من آباء وأمهات، وقد يعقب ذلك تفرّق إلى منازل أخرى، فيسود السكون والرهبة بعدما كان مأوَى ومَحَضَنًا للأسرة بنين وبنات، وهذا شأن الْحَيَاةُ الدُّنْيَا دوماً، ولقد أجاد الشاعر متحسراً القائل في مثل ذلك:
وَوَحشَتُهُ حَتّى كَأَن لَم يُقِم بِهِ
أَنيسٌ وَلَم تَحسُن لِعَينٍ مَناظِرُه
حيث انتقلت لطيفة العُميري «أم محمد» إلى الدار الآخرة يوم الأثنين 26-3-1443هـ، وأديت الصلاة عليها عصر يوم الثلاثاء 27-3-1443هـ، بجامع الجوهرة البابطين شمال الرياض، الذي عج بجموع من المصلين، ثم حمل جثمانها الطاهر الى مقبرة الشمال ملتقى الراحلين، فأودع بباطن الأرض على مشهد من أبنائها وأحفادها، في لحظات حزنٍ وأسى يعتصر مهجهم، داعين المولى لها بالرحمة والمغفرة، ثم انصرفوا مودعين وداعين لها بطيب الإقامة في مضجعها إلى أن يأذن الله بنهوض جميع الخلائق من أجداثهم ليوم الحساب، والعبور على متن الصراط المستقيم، لمن شملتهم رحمة الخالق جل علاه. وقد خيم الحزن على منزلها -تغمدها المولى بواسع رحمته وفضله- حيث توالى حضور المعزين لأبنائها وبناتها وأحفادها، بل ومعارفها الكُثر.
وقد ولدت في حريملاء وتربت بين أحضان وَالِدَيْها وشقيقاتها الثلاث وشقيقها الوحيد عبدالله بن ناصر العُميري -رحمهم الله-، وعندما بلغت السابعة من عمرها درست لدى إحدى المعلمات لكتاب الله العزيز وتعلم الكتابة والقراءة وحفظ ما تيسر من القرآن الكريم، وقد عُرفت بسرعة الحفظ وجودة القراءة، وبرّها بوَالِدَيْها، فهي محبوبة لدى زميلاتها، ومع بنات أسرتها وأقاربها، ولا يستغرب ذلك فقد تربت في بيت يتصف بمكارم الأخلاق والاستقامة، والتآلف مع الجميع، ثم اقترنت بشقيقي عبدالله بن عبدالرحمن الخريف الذي سبقها إلى ملتقى الراحلين منذ أربعين عاماً في 14-7-1403هـ، -تغمده المولى بواسع رحمته- وقد خلَّفا عدداً من الأبناء البررة والبنات الصالحات، فتولت -رحمها الله- رعايتهم وتربيتهم ومتابعة تعليمهم بعد رحيله، مما خفف عنهم سَّوْرَة الحُزْن واليٌتم، فعاشوا حياةً كريمة، وقد عملوا في حقل التربية والتعليم بكل جدارة وإخلاص، وخلّفوا ذرية صالحة تتصف بالتآلف والتواصل فيما بينهم. وكان أبناؤها وبناتها ملازمين لها طيلة حياتها يقومون بخدمتها ورعاية كافة شؤونها والبر بها، كما أن فقد ابنها محمد أثر فيها رحيله وغيابه عنها إلى -رحمة الله- منذ ثلاثة أعوام تقريباً.
وكانت رفيقة لعقيلتي «أم محمد» حيث اجتمعنا معاً في بيت في الرياض أثناء دراستي بكلية اللغة العربية، وعاشتا متآلفتين، ويستقبلان بكل فرحٍ وسرور من يزورهن من زوجات الأقارب وبناتهن وبنات الجيران، ولكن سرور الدنيا لا يدوم أبداً حيث انتقلت عقيلتي نورة «أم محمد» عام 1432هـ، فحزنت على فراقها وغيابها عن ناظريها حزناً ساورها مدةً طويلة، ولله در الشاعر القائل:
تَعَزَّ فلا إلفَينِ بالعَيشِ مُتِّعَا
ولكن لِوُرَّا دِ المَنُونِ تَتَابُعُ
كما لا ينسى ابني الأكبر محمد الذي أَلْفَى عَلَيْهِمْ أثناء الالتحاق بثانوية الجزيرة الواقعة قرب سكنهم في حي عليشة وإكرامهم له واعتباره من الأبناء، لأن العم بمنزلة الوالد، وقد قضت حياتها في عبادة الله وتلاوة القرآن الكريم، وصيام شهر رمضان في مكة المكرمة، وكذلك حج بيت الله الحرام في عدد من السنين تقرباً إلى رحمة المولى وفضله.
وَإِنَّما المَرءُ حَديثٌ بَعدَهُ
فَكُن حَديثاً حَسَناً لِمَن وَعى
تغمد الله الفقيدة بواسع رحمته وألهم أبناءها وبناتها وأحفادها ومحبيها الصبر والسلوان.
** **
- عبدالعزيز بن عبدالرحمن الخريف