معذرة عزيزي القارئ لن أحدثك هنا عن جديد، بل قديم ممل فرضه عليَّ مقتضى سياق حديث عن نفسي، وعن شيء رأيته ذلك المساء لأول مرة في حياتي، لن أنساه أبداً وهو مدينة الرياض قادماً إليها من الرس إحدى مدن القصيم كان ذلك في عام 1368هـ.
هذه المدينة هي «الرياض» أو العارض كما كنا نسميها في القصيم، هذا الرمز الشامخ في أفق التاريخ المحاط بأسوار عالية وأبواب ستة تغلق ليلاً وتفتح عند الفجر، تحيط بها من كل اتجاه وجانب بساتين النخيل، هذه الشجرة المباركة إنها محدودة المساحة يقطعها المرء مشياً على الأقدام في أقل من ساعة.
كان عمري حينذاك 14 عاماً تقريباً. كان مولدي في عام 1354هـ كما قيل لي ذات يوم من أحد الذين رافقوا أبي، وهو في طريقه لعقد قرانه على والدتي -رحمهما الله تعالى ويسكنهما فسيح جناته- أمين.
للعودة لما بعد ذلك المساء الذي وصلت فيه إلى الرياض العاصمة، التي كان سعيد الحظ من يسافر إليها حينذاك، كانت تقفل أبوابها بعد صلاة العشاء بساعات لا تتجاوز الثانية عشرة ليلاً، وتُفتح بعد صلاة الفجر مباشرة، ليتم التواصل بينها وبين أطرافها المحيطة بها شرقاً كحلة القصمان، وحلة العبيد، والمرقب وما حولها من مضارب لبعض البادية يدخلونها من خلال باب (الثميري)، يتم عزل هذه الأحياء عنها في موسم سقوط أمطار الشتاء وجريان وادي البطحاء المسقوف معظمه حالياً.
يتجه الداخلون منه صباحاً إلى سوق (المقيبرة) الشعبي الوحيد، للبيع والشراء ولتأمين ما يحتاج إليه البيت من مواد غذائية أو أعلاف كالبرسيم والحشائش الأخرى، فما من بيت في الرياض إلا وفيه عنز أو بقرة حلوب.
أما بعد العصر، فغلى سوق الحراج الرئيسي المنخفض وسط المدينة بالقرب من قصر الحكم والمسجد الجامع الكبير -مسجد تركي الأول- فهذا السوق هو قبلة للرجال للبيع والشراء وللتسكع أيضاً يعلوه جنوباً في سفح الجبل سوق للنساء، نساء يتميزن بالجد والصدق والأمانة والحياء.
أما أنا ومن هم في مثل عمري وأكبر قليلاً فتجدنا في أي مكان يمكن أن نجد فيه عملاً، نحمي فيه كرامتنا ونصون أيدينا من أن تمتد لحرام، سرقة أو نحوها، ولم يكن هذا بالنسبة لي يحول بيني وبين الدراسة والاطلاع بقراءة ما يقع في يدي أو تحت نظري من كتب أو صحف قديمة، بعد أن عفا عليها الزمن وأكل وشرب حتى الثمالة كما يقول أهل التجربة.
لم يطل بي الحال على هذا الحال، فقد وفقت دون سعي مني وإنما هي إرادة الله سبحانه وتعالى لأن ألتحق بالمدرسة العسكرية بالطائف عام 1369هـ حيث تخرجت فيها عام 1373هـ ضابطاً إلى أن أحلت على التقاعد برتبة لواء عام 1413هـ لأعين في نفس التاريخ سفيراً لخادم الحرمين الشريفين لدى دولة الإمارات العربية المتحدة، حيث بقيت فيها سفيراً مدة عشر سنوات إلى أن أنهيت خدماتي في 1423هـ دون تقاعد لأنني كنت متعاقداً مع وزارة الخارجية قادماً إليها من القوات المسلحة العربية السعودية الباسلة المنتصرة بإذن الله، حيث عدت إلى بيتي بعد خمسين سنة دون مسؤولية لأعيش ما بقي من العمر في بيتي وبين أبنائي حامداً الله على كل ما قدم ويسر.
** **
- سفير م. صالح بن محمد الغفيلي