حسن اليمني
بحث وقراءة صعود الصين العظيم خلال الخمس وعشرين سنة الأخيرة وتقدمها للمركز الأول اقتصادياً وقدرة على تدمير الأرض ومن عليها موازاة بقوى عظمى وحتى متجاوزة في القدرة أكثر، يولد السؤال الأهم في سر هذا الانطلاق الصاروخي المُعْجِز وآلياته الجديرة بالاتباع.
السيدة هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية الأمريكية الأسبق ترى أن توازن القوة مفهوم عتيق بال, بينما عارض ذلك بشدة رئيس وزراء سابق لسنغافورة (لي كولن يو) من منطلق بأن فكرة توازن القوة تمثل حجر الزاوية الأساسي لفهم العلاقات بين الأمم أو الدول, والواقع إنه إذا كان فهم السيدة كلينتون إلى توازن القوة التي تراه قديماً وبالياً ينحصر في توازن القوة العسكرية فإن هذا المفهوم انتهى فعلا لكن حقيقة القوة وقاعدة هذه القوة هي مجموعة متداخلة بين العناصر الاقتصادية والعسكرية كما فهم ذلك السيد (لي كولن يو) واجد أن هناك عنصراً آخر لا يقل عن الاقتصاد والقوة العسكرية بل ربما هو الأهم والأس الذي يؤسس الأرضية للعناصر الأخرى وهو التهيئة والتمهيد.
في الوطن العربي لا ننسى القاهر والظافر والمدفع العملاق وأخرى كثر لا يُجاز ذكرها للعربي على الأرض العربية وربما عُدت من المحرمات وهذه في الحقيقة ذرة نشا في كوّم متراكمة من المعوقات والتعطيلات المراد تجاوزها للانتقال لبناء مستقبل قوي اقتصادي وعسكري في الدولة العربية ينتهي دائماً بالفشل وربما الدمار كما حدث عام 1967م في مصر وعام 2003 في العراق، وأبقى دول الخليج العربية على وضع «مسارك سر» برغم الخطط والتخطيط وتوفر الإمكانيات.
يحكم الصين نظام شمولي خرج من الغطاء الشيوعي الذي كان يرعى أكثر من مليار فقير لا يتجاوز متوسط دخل 90 % منهم 2 دولار عام 1980م أصبح في العام 2010م 3 % فقط من يقل دخله السنوي عن متوسط 8100 دولار وهو بالتأكيد تصاعد ربما لدرجة الضعف أو أكثر في الوقت الحالي هذا العام 2021م وبذات الفترة في العراق كان الدينار يساوي أكثر من ثلاثة دولارات عام 1980م ولا تسأل عن حال المليون دينار عراقي اليوم التي قد لا تساوي دولارا واحدا علما أن المدفع العملاق كحال الظافر والقاهر كان طموحا حقيقيا لكن لم تهيأ وتمهد له القاعدة أو الأرضية السليمة، ولهذا لا علاقة لشكل نظام الحكم في النجاح أو الفشل ولكن التهيئة والتمهيد كان الاس الحقيقي في نجاح الصين وفشل الطموح العربي.
فرنسا أم الديمقراطية أو أرض نبتتها وإنجلترا الذين يرون ويزعمون انهم يمثلون الديمقراطية الحقّة باتوا اليوم خلف الصين بمراحل اقتصاديا وعسكريا وبما في ذلك الولايات المتحدة الأمريكية التي لازالت تحظى بصفة زعيمة العالم الحر, وهذا يكفي لتجاوز مفهوم الاعتماد على نوعية النظام الحاكم في التطور والتقدم, وأقصد بنوعية نظام الحكم تركيبته ونظمه التي متى صح منهجه اتسعت رؤيته لجمع عناصر القوة في الانطلاق, أي أن بنية ومضمون النهج في المسار هو الركن الأول في البناء.
لا يمكن أن يتقدم ويتطور أي وطن ما لم يشعر كل فرد فيه انه يسير للأمام بخطوة تأخذه إلى الأفضل, متوسط دخل الفرد بنموه واتساعه هو الحركة التقدمية أو الركيزة الأولى التي ترتقي بدخل الدولة، وليس العكس بل هي التي تضمن تصاعد نموه وقوته وتحقق النتائج المرغوب فيها في نهاية الأمر، كما حدث في الصين وماليزيا وغيرهما من الدول التي كانت متأخرة عن دخل الفرد في الخليج العربي وأصبحت اليوم تتجاوزه برغم تباين فقر الإمكانيات ووفرتها, والملاحظ هنا أن الدول التي تتبع إرشادات وتوجيهات البنك والصندوق الدولي تضخمت مديونياتها وتقلصت مداخيل مواطنيها وتلك الدول التي تحررت من تلك الارشادات والتوجيهات واعتمدت المسار الصحيح الذي يجعل نمو متوسط دخل المواطن واتساع نسبته في الكل معياراً للنجاح هي التي حققت النجاح ويكفي أن نعلم أن الناتج المحلي الصيني لعام 1980م الذي كان 300 مليار دولار فقط صار في العام 2015م 11 ترليون دولار وكان حجم تجارة الصين للعام 1980م 40 مليار دولار، وأصبح في العام 2015 يزيد عن 4 ترليونات دولار أي تضاعف مائة مرة, هذا نجاح فاق التصور بل وحقق المستحيل بالنسبة للزمن إذ إن 35 سنة وهي عمر جيل واحد وقد حققت هذه القفزات الهائلة تجعل الصين تخرق القواعد والنظريات والخطط المالية والاقتصادية التي استهلكها البنك الدولي واستنزف بها مقدرات أوطان خنقت شعوبها لتسدد أقساط ديونها بوعود براقة تملأ بها بطون شعبها المستنزفة في مصادر دخلها وكسب عيشها.
الإنتاج المعرفي هو الاقتصاد الحقيقي وهو الذي يصنع القوة العسكرية وأساس هاتين القوتين هو عقل الإنسان المواطن, الاتجاه والاستثمار في التصنيع التقليدي والتقني والابتكار هي أداة القوة الحقيقية الاقتصادية والعسكرية, ولا يمكن لشعب أن يتقدم من تلقاء نفسه حتى وان توفرت لدى بعضه الطموح والقدرة ما لم يُمَهد ويُهَيّأ له السبيل في هذا الاتجاه من خلال توجه عام يهدف ويسعى لتصنيع وزراعة بعض احتياجاته بحسب جدولة تتوسع بمراحل زمنية محددة للمراجعة والدراسة والتطوير وتسهيل المعوقات بجراءة نحو تحقيق الغايات والأهداف.