د.عبدالله بن موسى الطاير
بعبارات دبلوماسية يمكن القول إن وفود الدول التي تتفاوض حول البرنامج النووي الإيراني عادت إلى عواصمها للتشاور، وأخذ التوجيهات، إلا أن العبارات التي تفتقد للدبلوماسية ستدفع بأن محادثات فيينا فشلت فشلاً ذريعاً، وعاد كل إلى عاصمته يندب حظه.
شَعُر البيت الأبيض بخيبة أمل، تعمد تغليفها بعبارات دبلوماسية أحياناً، وبالتهديد باللجوء إلى خيارات أخرى. ففي حين صرحت المتحدثة باسم البيت الأبيض أن الإدارة الإيرانية لم تأتِ إلى فيينا بمقترحات إيجابية، وأكدت أن الرئيس بايدن متمسك بالخيار الدبلوماسي، حذّر وزير الخارجية الأمريكي إيران بأن «طريق الدبلوماسية يضيق أكثر فأكثر»، ووضع إيران أمام خيارين واضحين؛ إما العودة والالتزام التام بخطة العمل الشاملة، أو مواجهة طرق أخرى ستلجأ إليها الولايات المتحدة الأمريكية.
إيران تعرضت، بالتزامن مع محادثات فيينا، لضغوط شديدة على عدة محاور، حيث اضطرت أن تحني قامتها في لبنان، بالإيعاز لحزب الله قبول استقالة جورج قرداحي، وفي اليمن تمطر قوات التحالف الحوثيين بوابل من الغارات العسكرية النوعية التي تستهدف مقار تجميع الأسلحة الإيرانية وبخاصة المسيرات والصواريخ الباليستية، وأنباء عن مقتل مستشارين إيرانيين يشاركون في دعم الحوثيين، وفي العراق اضطرت لتوجيه عملائها للجلوس مع مقتدى الصدر بعد أن أخفقت في تعطيل نتائج الانتخابات، كما أن حدودها مع أفغانستان ليست على ما يرام. يضاف إلى كل ذلك ما تواجهه من تهديدات إسرائيلية على مختلف المستويات.
هذه الانتكاسات مجتمعة جعلت المفاوض الإيراني وصانع القرار يتصرفان بتشدد تحت تأثير اكراهات أفقدتهما القدرة على التفاعل بإيجابية على طاولة المفاوضات. فهل بدت متأكدة من امتلاكها أسرار السلاح النووي، ولذلك جاءت إلى المفاوضات بثقة في قدراتها النووية، تفرض شروطها، مستغلة الانقسام الحزبي في أمريكا، وتمسك الرئيس بايدن بهذا الاتفاق إنفاذاً لوعوده الحزبية، وليثبت أنه على طرفي نقيض مع سلفه دونالد ترامب الذي انسحب من الاتفاق في 8 مايو 2018م؟ أم أن الضغوط القصوى التي تتعرض لها إيران عسكرياً واستراتيجياً جعلتها مترددة في قراراتها وحذرة في خطواتها، ولذلك كانت متحفزة أكثر منها متفاعلة في المحادثات؟
وأياً كانت أسباب تشدد المحاور الإيراني، فقد أدرك، في فيينا، أنه يغرد خارج السرب، ولمس ذلك في تعاطي الروس والصينيون معه، وإجماع وفود روسيا والصين وبريطانيا وفرنسا وألمانيا، والحاضر الغائب الولايات المتحدة الأمريكية أن على الوفد الإيراني العودة إلى عاصمته لاطلاع المرشد الأعلى للثورة على حقيقة التعقيدات، والموقف الدولي من التلكؤ الإيراني. وسيكون على المرشد الأعلى اتخاذ القرار الصعب بعودة الوفد ومعه مقترحات إيجابية تجعل العودة إلى الاتفاق النووي ممكنة، وهو ما يأمله ويحلم به البيت الأبيض ويتوسل من أجله، أو أن يعلن الإيرانيون أنهم غير قادرين على التراجع عن برنامجهم النووي، وليذهب الجميع إلى الجحيم.
أشك كثيراً في الخيار الثاني؛ فإيران ليست الدولة التي تواجه أعداءها بهذا الوضوح، بيد أنه يبقى خياراً مطروحاً ولو نظرياً على الأقل.
مشكلة إيران ليست في الخطة الشاملة التي يجري التفاوض حولها، ولا مع الدول التي تتفاوض معها بما في ذلك أمريكا، وإنما لديها حسابات معقدة في الداخل لا تستطيع تجاوزها. العودة إلى الاتفاق النووي ورفع العقوبات التي استحدثها الرئيس ترامب سيعني دخول إيران حقبة جديدة لم تتهيأ لها منذ 40 عاما، وهي الانفتاح على العالم، الأمر الذي يرفضه المتشددون ويعتبرونه الخطر الأكبر على الثورة وعلى النظام، ولذلك فإنهم يتصلبون في تسويق قدرتهم على حماية السيادة، والمصالح الإيرانية داخلياً، وتقديم مبررات تجعل أمريكا ومجموعة الخمسة+1 ترفض شروط طهران في فيينا. انفتاح إيران على العالم يقض مضاجع المتشددين في نظام ولاية الفقيه، ويهدد مصالحهم، وينذرهم بوصول عدوى العولمة والهيمنة الثقافية الغربية إلى داخل إيران، مما يفتك بالتابوهات التي حكموا بها الشعب على مدى أربعة عقود.
إذا كان النظام صمد كل هذه المدة بسبب عزله إيران عن محيطها الإقليمي، وعالمها المعاصر، فإن انفتاحها تحت أي ذريعة سوف يعجّل بالتغيير الداخلي الذي يخشى منه النظام. ولذلك فإن الاختباء خلف شعارات الموت لأمريكا، واللعنة على اليهود، واستمرار التدخل في شؤون الدول العربية، يوحد عامة الإيرانيين ضد خطر متخيل يستهدف بلدهم، ويعطي الحرس الثوري القوة المبررة لإحكام قبضته على إيران.
حصول النظام في إيران على قنبلة نووية لن يهدد بشكل مباشر جيران إيران، ولن يهدد إسرائيل، ولكن امتلاك هذا السلاح الاستراتيجي سيزعج أعضاء النادي النووي، ومن ضمنهم إسرائيل، وفي المقابل سيحمي النظام، ويمد في عمره، مكرراً تجربة كوريا الشمالية التي تعيش خارج سياق التاريخ منذ عام 1948م.