عطية محمد عطية عقيلان
كانت العرب تخاف من شعراء الهجاء وتتجنب التعرض لهم، بل كانت تغدق عليهم بالعطايا والأموال حتى يسلموا من ألسنتهم، وكان الحطيئة جرول أبن أوس العبسي شاعراً مخضرماً أدرك الجاهلية وأسلم في عهد الخليفة أبوبكر الصديق (رضي الله عنه)، قرض الشعر ليعتاش منه واشتهر بهجاء الناس والأحوال نقمة على حياته الصعبة وفقره وسوء معاملة الناس له، ولم يسلم من هجائه أحد حتى أنه هجا أمه ووالده وحتى نفسه، فيقول في هجائه لنفسه:
أبت شفتاي اليوم إلا تكلماً
بسوء فما أدري لمن أنا قائله
أرى لي وجهاً شوه الله خلقه
فقبح من وجه وقبح حامله
وقام الخليفة عمر ابن الخطاب رضي الله عنه قد أمر بحبسه لهجائه الناس والتعرض لهم، واستعطفه الحطيئة بأبيات على حال أبنائه وهو في السجن بعيدا عنهم، واشترى منه أعراض المسلمين بثلاثة آلاف درهم حتى لا يهجوهم، فكان شعر الهجاء سلاحا للشعراء لتحقيق ماربهم والتقرب من الناس والحصول على منصب وعطايا، ومن القصص الشهيرة للشاعر المتنبي مع كافور الأخشيدي وكيف تحول المدح إلى الهجاء عندما لم يتحقق مراده في تنقل من ضفة إلى أخرى للشاعر دون أي رادع أخلاقي أو خجل من ردة فعل الناس، وكان الشاعر ابن الرومي يقول إن الهجاء عند العرب بمنزلة الطعنات وكان خوفهم من الهجاء أعظم من حبهم للمدح. ولكن قد يكون الهجاء يحمل جانباً جميلاً إذا كان في نقد سلوك أو عادات سيئة أو أفعال ضارة ومحبطة، فمن أجمل ما قيل في هجاء العابسين ما قاله شاعر المهجر أيليا أبو ماضي:
أَيُّها العابِسُ لَن تُعطى عَلى التَقطيبِ أُجرَه
لا تَكُن مُرّاً وَلا تَجعَل حَياةَ الغَيرِ مُرَّه
ومن الهجاء الجميل الذي يذم البخل والبخلاء، قول الشاعر أبونواس:
إذا فقد الرغيف بكا عليه
بكاء الخنساء إذا فجعت بصخر
ودون رغيفه قلع الثنيا
وحرب مثل وقعة يوم بدر
وأيضا من الهجاء المستحب ما يتحدث عن الكبر والغرور والتعالي، فالشاعر أحمد شوقي يقول:
إِنَّ الغُرورَ إِذا تَمَلَّكَ أُمةً
كَالزَهرِ يُخفي المَوتَ وَهوَ زُؤامُ
كذلك من الأبيات الجميلة لهجو بعض العادات، قول الشاعر العامي سعد بن جدلان:
ودنا بالطيب بس الدهر جحاد طيب
كل ما تخلص مع الناس كنك تغشها
يدك لا مدت وفاء لا تحرى وش تجيب
كان جاتك سالمه حب يدك وخشها
فقصص الهجاء في الأدب العربي من أيام الجاهلية وحتى عصرنا الحديث، تحمل العديد من الحكم والتناقضات بين الهجاء المذموم الذي يتحدث عن الأعراض والتنابز بالألقاب، والهجاء المحمود الذي ينتقد العادات السيئة والسلوكيات والفعال المستقبحة من المجتمع، وهي مفيدة لأخذ العبرة والعظة.