خالد محمد الدوس
* لاشك أن الأب يحتل مكانة خاصة ومهمة في الخارطة المنزلية، ويلعب دورًا محوريًّا ومفصليًّا في تماسك النسيج الأسري وضبط توازنه؛ ولذلك لم يطلق على الأب لقب (رب الأسرة) من فراغ..!! أو رجماً بالغيب..!! بل لأن وجوده يشكّل (صمام الأمان) الذي يحفظ هوية الأسرة من الضياع والتفكك، ويتيح للأبناء الاقتداء به، والسير على منهجه التربوي السليم، ويعطيهم الإحساس بالأمن والأمان وتحقيق الاستقرار الوجداني والنفسي، الاجتماعي والأسري.
ومن الطبيعي أن يأتي الأب في مقدمة من يقتدي به أبناؤه، فهو الرقم الأصعب في عملية بناء وتكوين شخصية الأبناء وتحقيق أساليب التنشئة الاجتماعية والتربوية والدينية والسلوكية في رحلة البناء السليم، باعتباره المثل الأعلى والقدوة الحسنة في حياتهم.
في سيرة والدي الشيخ محمد بن دوس الذي رحل عن هذه الدنيا قبل عام -رحمه الله- محطات تربوية ودروس أخلاقية، كان لها الأثر في تربية أبنائه وأحفاده ومنها تواضعه -رحمه الله- من خلال زيارته الأسبوعية لإخوانه وأقاربه، رغم أنه الأكبر سناً لم يجعل له حق المكانة والمهابة, أو اعتبارا اجتماعيا وقيميا، بل كان يزور أبناءه وبناته وإخوانه والأقارب، وكان متواضعاً في صلته بأرحامه، وفي مجالسه من يزوره يكرم ضيفه ويدخل السرور عليه بحديث ماتع وبشاشة عفوية.. دون تكلف أو كبر أو حاجز, حتى مع أحفاده كان يتسامر معهم في أحاديث ماتعة ذات دلالات أبوية تربوية. وفي إلقائه للسلام، كان يلقيه على الصغير والكبير والفقير والعامل بحرارة وشوق وكان في بيته في خدمة أهله، وكان هيّن المؤنة، ليّن الخلق، كريم الطبع جميل المعاشرة، طلق الوجه، بساماً متواضعاً في تعامله ولبسه وهندامه، متواضعاً من غير ذلة، جواداً من غير سرف!
ومن المواقف النبيلة والشواهد التربوية الفضيلة التي تكشف عمق إيمانه التام بالمسامحة والتصالح مع الآخرين كان إذا تأخر المستأجر عن دفع قيمة الإيجار يقول لصاحب العقار امنحه فرصة قد يكون يّمر بظروف مادية ولا نعلم حاله وأوضاعه.. حتى أن صاحب العقار المسئول عن تأجير بيوته، كان يقول له في حال تأخر المستأجر عن دفع قيمة الإيجار لمدة تصل سنة أو سنتين نشكيه، ويقول: لا، لن نشكيه وعنده أبناء ولن نتسبب في سجنه أو إبعاده عن أسرته, وإللي الله كاتبه يصير، رغم أن البعض من المستأجرين لبيوته يماطلون في دفع الإيجار كان متسامحاً لأنه يرى في العفو والتسامح خلق الأنبياء ومنهج الفضلاء.
هكذا كان -رحمه الله- يقدم التسامح والعفو في أروع صوره التي تنم عن سلامة القلب ونقاء السريرية ونظافة الصدر.
ومن محطات قدوتي الحسنة -رحمه الله- كان يكره الغيبة في المجالس وغيرها، لأنه جُبل على الصمت والسكينة يدخل المجالس بصمت وسكينة وهيبة ووقار, ويخرج منها بصمت وهدوء. ولسانه ذاكراً الله كثيراً، والصمت نصف الحكمة. كان والدي الزاهد.. العابد يكره الكلام في أعراض الناس.. وإذا سمع أحد يتحدث في المجالس عن شخص غائب يقول: (اذكروا الله) واتركوا الناس في حالهم. إنها قيم دينية فضيلة تأصلت في منهج حياته -رحمه الله-.
وعندما نغوص في أعماق شخصية قدوتي الوالد التربوية نجد أنه كان يحرص على إنزال الناس منازلهم حتى من كان يدخل عليه في مجلسه زائراً يقوم له ويقدره رغم كبر سنه ووهن عظمه وشيخوخته.. في الزواجات والأفراح عندما يحضر ملبياً الدعوة الفرائحية، وكنت ملازماً في كثير من المناسبات الاجتماعية العائلية كان إذا دخل عليه أحد الأقارب يقوم من كرسيه ويسلم عليه وقد تكرر هذا المشهد وكنت أشفق عليه -رحمه الله- صعوبة قيامه من كرسيه ليصافح الزوار والأقارب، وأتذكر كنت أقول له (يا أبي سلم وأنت جالس) الصالة الفرائحية مكتظة بالحضور وأنت معذور فيكون رده (لازم نقدر الناس وننزلهم منازلهم) ما أروعها من قيم تربوية وشيم أخلاقية أصيلة، وقد عمق هذه العبارة النبوية (انزلوا الناس منازلهم) بأسلوبه الذي يدل على رقي الخلق وجزالة المعنى والأدب الرفيع.
رحمك الله يا (أبي) كنت مدرسة فصولها القيم الأصيلة, والشيم الفضيلة, والمبادئ النبيلة ما زلت أتعلم منها يوماً بعد يوم.