الطريق إلى منزل جدتي هو أول طريق عرفته، ذلك الطريق الذي تعرف ذهني الصغير على ملامحه قبل معرفتي بالشوارع وأسمائها فور وصولي لمنزلها يستقبلني مدخل صغير دافئ وحنون كقلب ساكنة المنزل تعودَت ذاكرتي البصرية منذ طفولتي وحتى الكبر على مشهدين لذلك المدخل، أحدهم مدخل منمّق به كرسيان كلاسيكيان تتوسطهما طاولة تحمل مزهرية.
والآخر، مشهد يتحوّل فيه ذلك المدخل المنمّق إلى مستودع لمحل تجاري، صناديق وأكياس تملأ المكان، يظلُ حنوناً، ويظل دافئاً، ولكنه يفيض كرماً في هذا المشهد، كقلب ساكنة المنزل كذلك.
سبب المشهد الثاني، كرم جدتي وحبها، حبها الصادق لكل من تحب، فهي أن تذوّقت طعاماً أو جربت منتجاً أعجبها، لا يهدأ لها بال حتى تهديه لكل من تحب.
فتقف هذه الصناديق والأكياس في مدخل المنزل، لحين أن نزورها، وعندما نهم بالخروج تصيح جدتي موجهة كلامها لوالدتي، «نورة، خوذي كيس من اللي بالكرتون».
صالة منزل جدتي أشبه بخلية نحل، فهي حلوة بجميع جوانبها، لا تختلف عن العسل. مكتظة بكل عاشق لجدتي، خالاتي ووالدتي، أخوالي الاثنين، وكل من كتب له المجيء منا نحن الأحفاد.
الأصوات والكلمات النابعة من قلب غرفة المعيشة هذه هي مزيج من القصص والنقاشات وصوت التلفاز، لكن لا يطغى صوت فوق صوت جدتي وهي تسأل، تطمئن عن حال فلان وعلان، تسأل عن موعد وصول هذا، وصحة ذاك.
الصالة كانت دائماً هي نقطة النهاية، فنحن نزور منزل جدتي بخطوات واضحة ننطلق عبر المدخل إلى غرفة المعيشة، ونستقر هناك في تلك الخلية النابضة.
رحلت أمي، بعد أن رحل أبي، غفر الله لهما، رحمة من ربي، لأن رحمة ربي وسعت كل شيء، وأمي لم تكن لتطيق حياة بلا أبي.
رحيلهم أطفأ نوراً بداخلي، وأخفت النور في تلك الخلية، ولكن، سرعان ما اتقد نور الخلية من جديد، كنت بمجرد أن أطل على جدتي، أسمع دعاءها قبل سؤالها، لم تكن متخاذلة مثلي، رفضت إطفاء النور، أبقته مشتعلاً بقدر حبها، وبقوة إيمانها.
توالت الأيام، وتغيَّرت مسيرتي خلال منزل جدتي، لم تعد الصالة ملاذي الأخير، ساءت صحة جدتي، وأصبحت غرفتها هي نقطة النهاية، أصبحت أمر مرورًا غريبًا، من صالة باردة، لأن جدتي لم تعد بها متربعة على عرشها.
أزورها وهي على فراش المرض، متعبة، متألمة، منهكة، تستقبلني من سريرها بدعاء لأمي، ولأبي ثم بسؤال عن أختي وأبنائها، لا! هي لا تقول «شلون عيالها»، بل تذكرهم بالاسم، تلك هي جدتي، حتى على فراش المرض.
ولكن..
رحلت
تلك التي لا تنفك عن الدعاء لأمي وأبي بالرحمة فور أن ترى ملامح وجهي.
رحلت تلك التي تتغنى بقصائد حين نطل عليها.
رحلت تلك التي أحبت كل من عرفت، وأحبها كل من عرفها.
رحلت تلك التي أعطتنا من قلبها، من وقتها، من حلمها، لا يسعني قول غضبها لأنها كانت حتى فيما تكره حليمة.
رحلت تلك التي كانت شمعة لأنسنا، ملكة لخليتنا، مهذبة لأفعالنا، دواء لجراحنا.
رحلت.. ولا يسعني عند رحيلها إلا الدعاء.
اللَّهم ارحم جدتي بقدر حنانها، وأكرمها بقدر كرمها وأكثر فأنت أكرم الأكرمين، وارحمها بقدر حرصها وأكثر فأنت ربنا، وارحمها بقدر صبرها وأكثر فأنت الملهم، وارحمها بقدر ما أفجعني وآلمني وأفزعني فراقها، وارحمها بقدر حبها فأنت حبيبنا.
يا حي يا قيوم ارحم ماما نورة
** **
- لمياء بنت محمد